بعد أكثر من مئة سنة على صدور العدد الأول منها في 11 مايو 1915، أعادت دار الكتب المصرية - في الأسبوع الماضي - طبع المجلد الأول من جريدة «السفور»، وهي - كما وصفت نفسها آنذاك - جريدة اجتماعية نقدية أدبية تصدر مرة في الأسبوع كل يوم جمعة، رأى جماعة من الشباب المفكرين - كما قالت في افتتاحية هذا العدد - حاجة البلد إليها ماسة.

فأصدروها لكي يقولوا إن للسفور معنى أشمل وأعمق مما يتبادر إلى أذهان الناس عند سماع الكلمة التي جرت بها أقلام الباحثين في مسألة المرأة، لأن الحجاب لا يقتصر فقط على وجه المرأة، ولكنه يشمل أيضاً حجب نزعات الناس وفضائلهم وكفاءاتهم وأمانيهم، على نحو حول البلد إلى أمة مغلقة، لا يبدو منها إلا ظواهر كاذبة لا تتفق مع ما فطرت عليه في شيء.

بمصطلحات زماننا، يمكن القول - مع بعض التجاوز - إن «السفور» كانت جريدة «ليبرالية» أو «حداثية» أو «تقدمية» صدرت لكي تدعو إلى منظومة جديدة من القيم، تستهدف إزاحة الحجاب عن عقل الأمة لكي ينفض عن نفسه حالة الازدواجية التي تجعله يجمع بين التزمت الشكلي في الظاهر، وبين التحرر الذي يصل إلى حد الانفلات، على النحو الذي جسدته فيما بعد، شخصية السيد «أحمد عبد الجواد» - بطل ثلاثية نجيب محفوظ - التي شاءت المصادفة أن تبدأ حوادثها في وقت قريب من صدور العدد الأول من «السفور!».

وكانت جماعة الشباب المفكرين، التي رأت أن البلد في حاجة إلى جريدة تبشر بهذه الرسالة، تضم خمسة من الأصدقاء، جمع بعضهم بين التعليم في الأزهر وفي الجامعة المصرية القديمة، وانتقل بعضهم من التعليم المدني إلى الجامعة، وأكملوا جميعاً دراساتهم العالية في الجامعات الفرنسية هم: الشيخ مصطفى عبد الرازق، ود. محمد حسين هيكل، ود. منصور فهمي، ود. طه حسين.

وقد لمعت أسماء هؤلاء الأربعة في ما بعد على خريطة الفكر العربي، أما خامسهم فهو عبد الحميد حمدي الذي كان آنذاك محرراً في جريدة «الجريدة» التي أصدرها ورأس تحريرها أستاذهم أحمد لطفي السيد.

ولم تكن صحيفة الحالة الجنائية لاثنين من هؤلاء تخلو من سوابق تتهمهم بالخروج على التقاليد أو التطاول على المقامات. أما أولهما فهو منصور فهمي الذي كان من بين أعضاء أول بعثة أرسلتها الجامعة المصرية إلى فرنسا، ولكن الرسالة التي تقدم بها للحصول على درجة الدكتوراه أثارت غضب المحافظين والمتزمتين، فشنوا ضده حملة صحافية انتهت بسحب الدرجة منه.

أما الثاني فهو طه حسين الذي تم إسقاطه في امتحان شهادة العالمية، بسبب انتقاداته الحادة، في المقالات التي كان -وهو طالب في الأزهر- ينشرها على صفحات «الجريدة» ما اضطره إلى الالتحاق بالجامعة لكى يستكمل تعليمه بها.

ولأن الحماية البريطانية كانت قد فرضت على مصر بسبب الحرب العالمية الأولى، ولأن الرقابة العسكرية البريطانية كانت قد اضطرت الصحافة السياسية للتوقف عن الصدور، ودفعت أحمد لطفي السيد لأن يترك الإشراف على تحرير «الجريدة» لمعاونه عبد الحميد حمدي، ليعتكف في قريته.

فقد فكروا -كما يقول د. هيكل في مذكراته- بتكوين شركة تتولى إصدار جريدة أسبوعية أدبية اجتماعية لا شأن لها بالسياسة باسم «السفور»، وكان من بين بنود عقد هذه الشركة نص يقضي بأن يكون عبد الحميد حمدي.

هو المسؤول عن إدارة الشركة، له أرباحها وعليه خسارتها، وأن تقتصر مهمة الشركاء الأربعة الباقين، على أن يكتب كل منهم مقالاً في كل عدد من أعداد الجريدة، فإذا لم يكتب دفع مبلغاً معيناً لقاء عدم كتابته.

وهكذا استمرت «السفور» تصدر على امتداد ما يقرب من سبع سنوات، أصدرت خلالها 306 من أعدادها.. ولم تكف على امتداد تلك السنوات عن الجهر بدعوتها للتجديد في كل مجال.

ومن يقرأ الأعداد الثلاثين التي تضمنها المجلد الأول من «السفور» الذي صدر هذا الأسبوع، يدهش مثلي، لأننا نحن العرب، لا نزال نختلف حول القضايا نفسها التي اختلف عليها أجدادنا في عشرينيات القرن الماضي، ولأننا لانزال عاجزين عن حسم مسائل حسمها العالم المتقدم منذ زمن طويل، بل وساد الظن لدى بعضنا أنها لم تعد تستحق عناء الجدل أو مشقة المناقشة.

فإذا بنا نفاجأ بين الحين والآخر، بأننا لا نزال نقف «محلك سر»، ولايزال بيننا من ينظر لتلك المسائل بالنظرة نفسها التي دفعت أصحاب «السفور» إلى إصدارها منذ قرن من الزمان، بل إننا عند النظر لبعض هذه المسائل، نعود إلى الوراء بدلاً من أن نتقدم إلى الأمام، وأن حاجتنا لم تزل ماسة وملحة إلى جريدة أسبوعية، تقوم بذلك الدور الذي ندبت «السفور» نفسها للقيام به.

وكان الظن أنها أغلقت أبوابها، منذ ما يقرب من تسعة عقود، بعد ما أنجزت مهمتها، فإذا بحقائق الواقع تكشف عن أنها واجهت مقاومة جعلتها تلقى مصرعها وهي تخطو خطواتها الأولى في التبشير برسالتها، وربما يكون هذا هو السبب الذي دفع دار الكتب المصرية، إلى إعادة طبعها، لكي تذكرنا بأن مهمة التحديث لم تنته بعد، بل لعلها لم تبدأ بعد!