لا يزال الجدل حول المسلسل التلفزيوني «الجماعة2» -الذي يروى جانباً من سيرة جماعة الإخوان - مستمراً، على الرغم من انتهاء شهر رمضان، وسوف يتجدد عند عرض الجزء الثالث منه في رمضان المقبل، ليدور حول المسائل نفسها التي دار بشأنها الجدل عند عرض الجزء الأول منه قبل سنوات، وتجدد حول غيره من المسلسلات والأعمال الدرامية التي تتناول سير الشخصيات التاريخية.
والتي كان آخرها - قبل عرض الجزء الثاني من «الجماعة» - الاشتباك العنيف الذي حدث بشأن تقييم شخصية «الناصر صلاح الدين الأيوبي» بين د. يوسف زيدان وعدد من المؤرخين، بعد أن اتهم زيدان صناع الفيلم السينمائي الذي أخرجه يوسف شاهين عنه قبل ما يقرب من نصف قرن، بأنهم سعوا إلى «تبييض» تاريخ صلاح الدين!
تلك تهمة لم ينج منها السيناريست المقتدر وحيد حامد وصناع مسلسل «الجماعة 2» بسبب خلاف حول مدى صحة بعض الوقائع الفرعية التي جسدها عدد من مشاهده، ما جعله هدفاً لانتقادات عنيفة من بعض التيارات السياسية، فاتهمه بعض الناصريين بأنه سعى لتبييض وجه «الجماعة» حين زعم أن الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، كان عضواً - في أربعينيات القرن الماضي - بالجهاز السري الذي أنشأته لممارسة العنف.
واتهمه بعض الوفديين بأنه تعمد تشويه تاريخ الزعيم الوفدي مصطفى النحاس بتجسيد واقعة عن طبيعة علاقته بالملك فاروق - مشكوك في ذمة الشاهد الوحيد عليها - وهي انتقادات بالغ فيها الطرفان، اللذان خاضا المعركة الأيديولوجية والسياسية ضد الإخوان - قبل ثورة يوليو 1952 وبعدها - على نحو لم تستفد منه سوى الجماعة نفسها، إذ ساهمت في التشكيك في مصداقية ما يرويه المسلسل عن تاريخها.
والحقيقة أن وقائع المسلسل تحفل بشخصيات كان يمكن اختصار أدوارها، حتى لا يتشتت المشاهد في متابعتها لكثرتها من جانب، وهامشية وتباعد المشاهد التي ظهرت فيها من جانب آخر.
كما أن بعض الشخصيات المحورية التي دارت حولها الأحداث، قد ظهرت في وقت مبكر عن الزمن الحقيقي التي ظهرت به على شاشة الإخوان، خاصة زينب الغزالي التي لم يبرز اسمها في نشاط الجماعة إلا في بداية الستينيات من القرن الماضي، و«سيد قطب» الذي لم يكن دوره مؤثراً في هذا النشاط إلا في الفترة نفسها، لكن ذلك خلاف في التفاصيل يمكن التجاوز عنه.
لأنه لا يؤثر كثيراً في الحقائق التاريخية، فضلاً عن أننا - بالأساس - أمام عمل فني يحاسب بمقاييس الدراما، وليس بقواعد علم التاريخ، وبالتالي فإن الخلاف حول بعض التفاصيل الفرعية، قد لا يكون هو المهم، إذ المهم هو الخطوط العامة للتاريخ خلال الحقبة التي يتناولها، والرؤية التي ينطلق منها، وهو ما نجح وحيد حامد في الحلقات الأربع الأخيرة من هذا الجزء من المسلسل أن يلم بخيوطه.
لكي تصل الرسالة التي أراد أن يقولها للمشاهد بشكل أكثر وضوحاً مما كان في معظم الحلقات، فإذا بنا أمام رسالة لا لبس فيها، تقول بوضوح أن الخلط بين ما هو ديني وما هو سياسي، واستخدام المقدسات الدينية في سوق السياسة، يقود إلى كوارث تضر بالأوطان وبالأديان.
أسخف ما تضمنته زوابع التحريض على مسلسل «الجماعة 2» كان مطالبة بعض الذين ساهموا في إثارتها، بوقف عرض المسلسل، واستصدار قانون يفرض رقابة على الأعمال الدرامية التي تتخذ من التاريخ موضوعاً لها، وهو ما ذكرني بمشروع قانون للصحافة فكرت الحكومة المصرية في إصداره عام 1934، ورأت أن تجس نبض الذين يعنيهم الأمر في نصوصه، فقامت بتسريب بعضها.
وكان من بين هذه النصوص مادة تقضي بمعاقبة كل صحافية أو صحافي يوجه نقداً إلى الحكام والوزراء، الذين غادروا الدنيا بالحبس أو الغرامة، وهو ما اعتبرته الصحف «عجيبة من العجائب تقضي على التاريخ المصري بألا تكون مؤلفاته من وضع المصريين أو في متناول أيديهم، بل من وضع الأجانب الذين تخلو قوانينهم من مثل هذه النصوص، سواء تعلق الأمر بتاريخهم أو بتاريخ غيرهم».
وكان من بين ما سربته «الأهرام» من النص المقترح، إلزام الصحافي عند عرضه للوقائع التاريخية بسرد الحوادث دون التعليق عليها، وهو ما وصفته افتتاحية الأهرام بأنه «مبدأ فاسد من أساسه مناقض للأسلوب العلمي في البحث، مشوه للحقيقة».
وانتهت الحملة التي شنتها الصحف ضد هذا النص بالعدول عن إصدار مشروع القانون كله، ونجت الصحافة المصرية من فرض الرقابة على الماضي وليس فقط على الحاضر.
ما ينبغي أن يُذكر ويُشكر، لصناع مسلسل «الجماعة 2»، أنهم فتحوا الباب أمام المسكوت عنه في تاريخنا القومي، وأنهم بما قدموه، يسهمون في جذب الأجيال الجديدة من الشبان العرب، إلى الاهتمام بالتاريخ والقراءة فيه، ويدفعهم للمقارنة بين الروايات المتعددة للحدث الواحد، واستخلاص الحقيقة التاريخية، لكي يدركوا أن صفحات التاريخ الذي اصطنعه الإخوان لأنفسهم هي صفحات سوداء مظلمة.