الجامعة بين الحاجات والرغبات

ت + ت - الحجم الطبيعي

في الوقت ذاته من كل عام تُقدّم لنا مدارسنا جيلاً جديداً من حملة شهادة الثانوية، ينتقلون من مرحلة ويتهيأون إلى مرحلة دراسية جديدة، يتلمسون طريقهم، تدفعهم آمال كبيرة وتحيط بهم تساؤلات أكثر دقة، الاختيار فيها تشكل بقدر كبير سمات مرحلة مهمة من عمر الإنسان، وقد يكون هو الاختيار الأصعب في حياة الإنسان، والتردد أو سوء التقدير فيه قد يحرمه من تفوق كاد يحدث، أو مهارة أو شكت على الظهور والتمكن، أو مجال قد يكون الابتكار حليفاً له لينفع نفسه ومن حوله.

ولا شك أن الغموض عند الكثيرين في هذه المرحلة هو سيد الموقف، وعدم الوعي الكامل لدى الكثيرين قد يسبب لهم عشوائية الاختيار، وبخاصة أنه لأول مرة يجد الطالب نفسه أمام عبء اتخاذ القرار، حيث إن الانتقال في المراحل السابقة لم يكن يتطلب منه غير اجتيازها دون تغيير كبير في طبيعة ما يدرسه.

كما أنها لم تكن تمثل الحلقات الأخيرة في مسيرة حياته العلمية، غير أن الوضع هنا اختلف كثيرا، كما أن الكثير من الأسر تقف على الحياد تاركة اختيار التخصص للأبناء ويناوأن بأنفسهم حتى يتحمل الابن نتيجة الاختيار، كما أن المدرسة تعتقد أن دورها قد انتهى بانتهاء دراسة الطلبة بها، هنا تزداد المسألة صعوبة وبخاصة أن نسبة كبيرة من الطلبة لا يعلمون الكثير عن طبيعة التخصصات المطروحة بالجامعات.

من هنا تبدأ العناصر الفاعلة في تحديد التخصص لدى عدد كبير من الطلبة وهم الأصدقاء، الذين يتأثرون ببعضهم البعض دون وعي كافٍ، وبخاصة أن الصداقة في تلك المرحلة لها تأثير يفوق تأثير الأسرة أحيانا، كما أن منهم من يختار الجامعة قبل البحث عن التخصص الذي يقصده الكثير لاعتبارات تتعلق بالنسبة المطلوبة، ومعدل النجاح، وسنوات الدراسة، التي تكون الأفضلية فيها لمن لا يحتاج لمعدلات مرتفعة، وطبيعة دراستها.

والتي يمكن المرور خلالها دون جهد كبير من وجه نظرهم، والتي يمكن من خلالها الحصول على فرصة عمل سريعة يمكن التدرج خلالها دون الحاجة إلى نمط من التعليم المستمر، الذي يحتاج فيه الفرد لاستكمال مسيرته في الدراسات العليا حتى يكون أكثر تخصصا أو الحاجة إلى تعلم الجديد من البرامج أو اكتساب المزيد من المهارات، وكذلك التي لا تتطلب التواجد في أوقات طارئة.

نتيجة لهذه الشروط التي وضعها أبناؤنا لأنفسهم نجد أنفسنا في الأخير أمام حالة من التكدس في التخصصات والندرة في تخصصات أخرى، وهو الأمر الذي لا يلبي حاجة سوق العمل، على الرغم من أن أهداف المؤسسات التعليمية بالأساس هي تلبية حاجة سوق العمل بكفاءات تملك مهارات قادرة على الوفاء بمهامها بفاعلية وكفاءة.

كما أن لذلك تداعيات على خطط التنمية والرؤى المستقبلية التي تتطلب نوعية من التخصصات لن تكون إذا ظل الأمر على نفس الحالة من الاختيارات التي تنتج خللا في خارطة التخصصات الجامعية، ويظل الاحتياج قائما لملء ذلك الفراغ على الرغم من التزايد المطرد في عدد الجامعات والملتحقين بها، غير أن الهجرة مستمرة لبعض التخصصات التي تعاني من تخمة فيه، والجفاء باق في تخصصات أخرى تعاني من ندرة.

ولأن الأمر على هذا النحو يجب إعادة رسم خارطة الاحتياجات الوطنية من التخصصات يبنى على أساسها برامج توعوية معنية بالإرشاد الأكاديمي للطلبة في مرحلة ما قبل الجامعة، تتيح للطالب معرفة مختلف التخصصات والفرص المتاحة للالتحاق بها سواء خلال الدراسة أو بعد التخرج من تميز ووظائف متميزة تتيح له المدى الواسع.

كما أنه من الأهمية بمكان مساعدة الطلبة في المراحل ما قبل الجامعة على اكتشاف ما يملكون من قدرات ومساعدتهم على تنميتها، فضلا عن رعايتهم وتهيئتهم للولوج إلى تخصصات بعينها حتى تتم معالجة هذا الفجوة، من هنا فإن للمدرسة دورا مهما في هذا المجال يأتي بالشراكة مع الجامعة وما ينتظر منها من تقديم منح لتخصصات بعينها.

فضلا عن دور الأسرة في مشاركة أبنائها في إسداء النصح والتوجيه وكشف ما التبس عليهم من إشكالات تساعدهم في الرؤية الصحيحة، ولا يجب أن تكون بعيدة عن الاختيار تحت ذرائع متعددة، كما أن هناك دورا مهما يجب أن تقوم به المؤسسات من توفير رعاية للطلبة منذ مراحل مبكرة.

وتقديم محفزات مالية وفرص عمل عند الالتحاق بتخصصات المجتمع بحاجة إليها وتسليط الضوء عليها كعنصر جاذب، في الوقت الذي يجب إعادة النظر في صناعة الصورة الإعلامية لبعض التخصصات وبخاصة في مجال التربية، والتي كانت سببا في عزوف نسبة كبيرة من الدارسين لتخصص التربية لاعتبارات متعددة.

لقد آن الأون لربط المخرجات التعليمية للجامعات باحتياجات الدولة دون ترك الأمر لرغبات لا تمثل قوة دافعة لتحقيق الرؤى المستقبلية.

 

 

Email