على الرغم من الأدوار المهمة والإيجابية التي يتم ممارستها عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وعلى الرغم من أنها قد استطاعت أن تقصر المسافات وغيرت مفاهيم العمل الإعلامي ذاته، فضلا عن ممارسة أدوار تنموية عبر المبادرات الخدمية التي تسهم في تنمية المجتمع، وهي التي جاءت عبر فتح السبل للاستخدام الراشد لها، شأنها في ذلك شأن كافة وسائل الاتصال الجديدة التي تأتي ومعها درجات من الغموض في طرق ومجالات الاستخدام، وكذلك درجات التأثير إلى أن تنضج الرؤية ويتكشف الاستخدام الأمثل لها.
أقول ذلك بعد أن استوقفني منذ أيام قلائل ذلك المقطع الذي نشر على وسائل التواصل الاجتماعي لرجل في الستين من عمره، عربي الجنسية، يعمل مؤذناً لمسجد في بلد عربي منذ عشرين عاما، وقد وافته المنية وهو جالس يقرأ القرآن قبيل صلاة الفجر، إلى هنا والأمر لاغضاضة فيه فالموت على رؤوس الأشهاد، غير أن الذي استوقفني هو مشهد ثم حوار، أما عن المشهد فهو قيام أحد رواد المسجد بتصوير الرجل الذي وافته المنية وهو متكئ على ذراعه أقرب إلى النوم منه إلى الوفاة، فما كان من الرجل إلا أن أخرج هاتفه ليقوم بتصوير الرجل الذي ربما أصيب بغيبوبة ناتجة عن مرض أو حالة إعياء أثر أزمة قلبية أوغيرها من الأمراض التي قد يتعرض لها البعض فتفقدهم الوعي وتحتاج إلى تدخل، وقد تساوي البرهة فيه إنقاذ حياة إنسان، أقول إن كل ماسعى إليه من استرعاه حالة الرجل أن يفتح كاميرا هاتفه ليقوم بتصويره بدلاً من أن يتفحص حالته ويتصل بنفس الهاتف بالإسعاف لنجدته إن عجزهو من إسعافه.
كنا في أزمنة سابقة في مثل هذا الموقف نسأل هل من طبيب أو مسعف بين المصلين ولم نكن نعدم وجودهم، غير أن حالة الشغف بوسائل التواصل الاجتماعي جعلت من هذه الحالة الإنسانية بالغة الحساسية فرصة سانحة للتصوير دون أن يراعي قدسية المكان وحرمة الحالة، ثم ذهب الرجل لأبعد من ذلك وقام بنشر هذا المقطع على وسائل التواصل ليجوب العالم خلال لحظات، وفيه أتوقف عند الحوار.
ذلك الحوار الممعن في الاستفزاز بينه وأحد رواد المسجد، والذي يستفسر فيه عن حالة الرجل المتكئ على ذراعه فيخبره، وهو مستمر في التصوير، يبدو أنه قد مات، ما يعني أنه ليس متيقناً من ذلك، غير أن ذلك لا يحول بينه وبين الاستمرار في أخذ اللقطة التي ستكسبه ملايين المشاهدات، غير عابئ بما يعنيه ذلك، ثم يستمر الحوار عن هوية الرجل، فيجيبه الآخر أنه لا يعرفه، فيكرر الرجل هل هو من رفع الآذان؟ فيجيبه لا شخص آخر.
كل ذلك الحوار الممجوج يدور بين شخصين، أحدهما مستمر في التصوير والآخر لم يرعه ذلك المشهد لرجل في أحسن الأحوال أصيب بغيبوبة، غير أنه استمر في غيه يصور وكأنه بهذا يقوم بما يجب عليه.
وبالرغم من استفزاز المشهد الأول، الذي لم يراع حرمة، ولم يقدم نجدة، غير أنه وبعد قليل تم نشر المقطع الثاني وفيه الرجل مازال بالمسجد، غير أن ابنه يحتضنه ويبكي بكاء يهز الحجر على فقدان والده، الذي مازال جالساً أمام كتاب الله ولم يفصل أحداً بوفاته بشكل مؤكد، لكن ذلك الرجل مازال مستغرقاً في تصوير المشهد وكأنه يريد أن يتم القصة دون أن تؤثر فيه ملامحها، ثم ماكان من الابن إلا أن قام بما كان يجب أن يقوم به من حضر من استدعاء للإسعاف، تاركاً الوالد الذي مازال هدفاً لتلك الكاميرا شديدة السخف، كل ذلك يتم وفي حضور البعض الذين لم يسع منهم أحد لإحضار مايواري به ذلك الجسد في موقف له حرمة وقدسية.
والسؤال الذي يتجاوز البعد الإنساني، الذي يبدو أن البعض في ظل حضور وسائل التواصل الاجتماعي الطاغي قد فقده، من الذي أعطى الحق لذلك الرجل أن يقوم بتصوير ذلك المشهد ، وبأي حق جاز له أن يرفعه على وسائل التواصل الاجتماعي، وأين هو الحق في الخصوصية التي أجازها القانون للأحياء، والتي لم يتوقف عندها صاحبنا ولم يراع للموت حرمة؟.
أتساءل بأي حق قام هذا الرجل بتصوير ذلك المشهد المهيب الذي لم يكن يوماً مستباحاً وظل محفوظاً بسياج من الرهبة والجلال وبعيداً عن تلك السلبية الممقوتة في موقفه، ألم يفكر لحظة في كم الآلام الذي قد يسببها لأسرة المتوفى التي روعها جلال المنظر، إن كثيراً من السلوكيات الاتصالية التي تتم عبر وسائل التواصل الاجتماعي تحتاج إلى ردع قانوني بعد أن غابت الأخلاق عند البعض أو كادت.