عندما ذهبنا نحن المبعوثين إلى الخارج لدراسة الاقتصاد، منذ نحو ستين عاماً، كان الموضوع الذي يشغل بالنا هو «التنمية الاقتصادية»: نريد أن نعرف أسرارها ثم نعود إلى بلادنا بالحلول السحرية التي تحول بلادنا من بلاد «متخلفة» طبقاً للتسمية الشائعة في ذلك الوقت، إلى بلاد «متقدمة».
كان الكتاب الذائع الصيت وقتها كتاباً لمؤرخ اقتصادي أميركي هو والتى روستو (W.Rostow) عن مراحل النمو الاقتصادي (Stages of Wcnomic Growtn) وقبلنا نحن طلاب التنمية دون تردد تقسيمه للتاريخ الاقتصادي للأمم إلى أربع مراحل: مرحلة المجتمع التقليدي، ثم مرحلة التمهيد للانطلاق، ثم مرحلة الانطلاق وأخيراً ما أسماه بمرحلة «انتشار مستوى عالٍ للاستهلاك».
كم كانت تعتبر نفسها سعيدة الحظ تلك الدول التي وصلت إلى هذه المرحلة الأخيرة، وفي مقدمتها في ذلك الوقت، الولايات المتحدة الأميركية، التي اعتبرت قدوة لسائر الدول الراغبة في التقدم الاقتصادي، حيث إن الهدف الاقتصادي كان يعتبر في ذلك الوقت أسمى الأهداف.
فقد اعتبرت الولايات المتحدة هي القدوة في سائر الأمور، إذا صرفنا النظر عن ذوي النزعات الاشتراكية الذين فضلوا النظام المتبع في الاتحاد السوفيتي. ولكن حتى هؤلاء سرعان ما بدأوا ينفضون عن الاشتراكية بعد أن شاعت أسرار التجربة الستالينية من حيث تقييد الحريات السياسية والفردية، ثم بعد أن ظهر منذ أواخر الستينيات أنه حتى نجاحها الاقتصادي مشكوك فيه.
شاعت أيضاً في الخمسينيات والستينيات تسمية الجزء الفقير من العالم «بالعالم الثالث» وهو الذي لا ينتمي إلى مجتمعات الغرب الصناعي المتقدم، ولا هو من الدول التي تدور في فلك الاتحاد السوفيتي. هذا هو أيضاً العالم «المتخلف» الذي يتنافس على كسبه المعسكران الكبيران، الغربي الرأسمالي والشرقي الاشتراكي. هذا العالم المتخلف كان يتكون من دول أفريقيا ومعظم دول آسيا وأميركا اللاتينية والشرق الأوسط.
بعد انتهاء الستينيات، كاد يختفي وصف الدول المتخلفة، وحل محله وصف «الدول النامية». وقد حدث هذا التغير ليس بسبب تقدم ملحوظ في أحوال الدول المتخلفة، بل بدافع الأدب من ناحية، إذ اعتبر وصف الدولة بأنها نامية أكثر تهذيباً من وصفها بالتخلف، وأيضاً بدافع تشجيع هذه البلاد على الاشتراك في سباق التقدم الاقتصادي.
كان التقدم الاقتصادي يعتبر حينئذ أسمى الأهداف التي يمكن أن تسعى دولة إلى تحقيقها. وكان لهذا التقدم الاقتصادي مقياس بسيط للغاية هو ارتفاع متوسط الدخل؛ فالدولة تعتبر متخلفة إذا قلَّ هذا المتوسط عن حد معين ومتقدمة إذا تجاوز حداً معيناً. حاول بعض الاقتصاديين والسياسيين الأكثر حكمة أن يضيفوا إلى متوسط الدخل معايير أخرى كانتشار التعليم مثلاً أو درجة الديمقراطية والتمتع بالحريات الفردية.
وأن يسموا التقدم الذي يأخذ في الاعتبار مثل هذه المعايير إلى جانب متوسط الدخل (التنمية الإنسانية) (Human Development) ولكن ظل متوسط الدخل هو الأكثر شيوعاً، فقد كان من الصعب الاتفاق على طريقة قياس التقدم في هذه الأمور الأخرى. إذ ما هي بالضبط الدولة الديمقراطية؟ وكيف يقاس مدى توفر الحريات الخاصة أو فقدها؟
مر وقت طويل على انشغال الاقتصاديين بهذه الأمور، حتى أصبح من النادر الآن أن نصادف التمييز بين جزء من العالم وجزء آخر بأوصاف خاصة، ومن الشيق أن نتساءل عن أسباب ذلك. هل من بين هذه الأسباب أن الدول كلها قد دخلت السباق نحو التقدم الاقتصادي.
ولم تعد هناك دولة «متخلفة» عن هذا السباق؟ أم أن تيار «العولمة» قد شمل الجميع فأصبح من الصعب أن تعتبر صفات معينة متصورة على جزء من العالم دون غيره؟ لا شك أن لهذا العامل وذاك دوراً في اختفاء وصف «الدول المتخلفة» ولكن من الممكن أن نتساءل عما إذا كان هذا التطور مكسباً خالصاً.
من المفيد أن نتذكر أن بعض الكتاب كانوا قد تنبَّهوا من البداية إلى أن وضع الدول الفقيرة كلها في سلة واحدة، لمجرد اشتراكها في انخفاض مستوى الدخل، يتجاهل أن هذه الدول ذات ثقافات مختلفة، ولكل منها تاريخ مستقل، وأن لهذا أو ذاك آثار مهمة في تشكيل نوع الحياة، بل وحتى في مستوى الرفاهية الاقتصادية.
وأن محاولة علاج الفقر بزيادة متوسط الدخل، دون الالتفات إلى أثر السياسات الاقتصادية على جوانب الحياة الأخرى قد يكون بمثابة ( إلقاء طفل مع الماء القذر)- كما يقول المثل الانجليزي، أي عدم الاكتفاء بالتخلص من الماء الذي استخدم في تنظيف الطفل، بل جرى التخلص من الطفل نفسه.
إن ما حدث في الدول التي كانت تسمى متخلفة لم يكن مجرد تقدم اقتصادي بل كان تطوراً اقتصادياً من نوع معين يمكن وصفه «بالتغريب»، أي إنه جلب زيادة في السلع والخدمات المستقاة كلها من حضارة أو ثقافة بعينها فاستبدل نمط حياة بأكملها بنمط آخر، وإن هذا الاستبدال تم باسم «التنمية الاقتصادية» أي الخروج من التخلف الاقتصادي، ولكن جرى دفع ثمن باهظ من أجل ذلك يتعلق بأمور أخرى غير الاقتصاد.