يروى عن الزعيم الهندي الشهير المهاتما غاندي، أنه كان ذاهباً للقاء ملك بريطانيا، جورج الخامس، فيما بين الحربين العالميتين، ورؤي وهو يصعد سلالم قصر باكنغهام مرتدياً رداءه البسيط جداً، الذي لا يتكون من أكثر من قطعة من القماش الأبيض يغطي بها معظم جسمه وصندلاً بسيطاً كحذاء، سأله الحارس الواقف على سلالم القصر، وكان الحارس يرتدي زياً فخماً متعدد الألوان: «هل حقاً ينوي مقابلة الملك وهو يرتدي هذا الرداء؟ فأجابه غاندي «بأن جلالة الملك يرتدي من الملابس ما يكفي بلا شك لكلينا معاً».
كثيراً ما أعود إلى تذكر هذه الواقعة الطريفة، وأتذكر معها منظراً رأيته في فيلم قديم ويتضمن ملكاً من ملوك العصور الوسطى أو بدايات عصر النهضة، إذ يأتي إليه أحد مستشاريه ومعه ملعقة وشوكة وسكين، يريها للملك قائلاً: إنها اختراع حديث يستخدم عند تناول الطعام، فعندما سأله الملك عن فائدتها وهو يستطيع استخدام اليدين بدلاً منها، قال المستشار إنها تمنع اتساخ اليدين ويمكن غسلها بعد الانتهاء من الأكل، فرد الملك بأنه يستطيع أيضاً أن يغسل يديه بعد الانتهاء من الأكل، فما فائدة هذا الاختراع بالضبط؟
القصتان يجمعهما، فيما أظن مغزى واحد وهو أن الحاجات الإنسانية من السهل إشباعها دون استخدام مخترعات الحضارة الحديثة، وأن ما قد نظنه ضرورياً من هذه المخترعات ليس في الحقيقة كذلك.
علماء الاقتصاد يزعمون في تعريفهم لعلمهم أنه العلم الذي يبحث في كيفية استخدام الموارد المحدودة لإشباع حاجات الإنسان غير المحدودة. ولكن الحقيقة أن غير المحدود ليس هو حاجات الإنسان بل رغباته. حاجات الإنسان تحددها طبيعته البيولوجية التي يولد بها، كحاجته إلى المأكل والمأوى والعاطفة، لضمان البقاء واستمرار النوع الإنساني. أما الرغبات الإنسانية من الممكن أن نتصور أنها غير محدودة بسبب ما يملكه الإنسان من عقل وقدرة على التخيل مما يفوق ما تملكه الكائنات الحية الأخرى.
في مسرحية فاوست للأديب الألماني الشهير جوته، قول مؤاده أن الإنسان يشترك مع الحيوان في بعض الميول العدوانية، ولكن ما يملكه الإنسان من عقل يجعله قادراً على ارتكاب قدر أكبر من هذه العدوانية، (فالحيوانات مثلاً لا تنظم نفسها في جيوش لقتل الحيوانات الأخرى). هذه الميول العدوانية قد لا ترجع إلى أن للإنسان حاجات يجب إشباعها، بل إلى ما لديه من رغبات تتجاوز بكثير ما يمكن أن يسمى «حاجات» إذ أنها ليست ضرورية لحفظ الحياة والنوع.
هذا الإدراك لحقيقة الحاجات الإنسانية، وأنها محدودة بعكس ما نتصور أحياناً، تلقي ضوءاً مهماً على كثير من جوانب ما نطلق عليه اسم «الحضارة». نحن نتصور أن الإنسان في العالم الحديث لا يكف عن إضافة الجديد إلى الحاجات، والجديد الذي يشبع به هذه الحاجات، بينما قد لا يزيد الأمر عن اكتشاف وسائل جديدة لإشباع حاجات قديمة.
من هذا أيضاً نتبين أن التفرقة بين ما نسميه «حضارة» وما نسميه «ثقافة»، ليست بالوضوح أو الحسم الذي قد نظنه. فالثقافة بالمعني الانثروبولوجي هي ما استقر عليه مجتمع ما من عادات وتقاليد وهو بصدد إشباع حاجاته، بينما يقصد بالحضارة، مستوى عالٍ (أو مستوى نعتبره أعلى أو أفضل) من إشباع هذه الحاجات. ولكن ترتيب العادات والتقاليد من حيث الأفضلية أو التفوق ليس بالسهولة التي قد نظنها، فبعض العادات التي نعتبرها «بسيطة» وما تمارسه مجتمعات نسميها «بدائية» أو «متخلفة»، قد تؤدي الوظيفة نفسها، أي تشبع الحاجة نفسها بدرجة لا تقل أو حتى تفوق ما يقابلها في المجتمعات التي نسميها متقدمة أو متحضرة. وصف ثقافة ما، إذاً بأنها أعلى في مضمار الحضارة، أمر يثير الكثير من الشكوك والغموض، وقد لا يزيد على أن يكون تعبيراً عن تحيز أصحاب ثقافة ما ضد أصحاب الثقافات الأخرى.
أظن أن مزايا إدراك أن الحاجات الإنسانية محدودة سهولة تحقيق الرضا بما يناله المرء من ثراء، والقناعة بالقليل منه. ولا شك أن هذا من أسباب ما نلاحظه من شيوع درجة أعلى من القناعة والرضا بالنصيب في الشعوب الأكثر فقراً، ودرجة أعلى من الجشع والمنافسة في غيرها من الشعوب، والتي كثيراً ما نسميها بالمتقدمة أو المتحضرة، وكذلك فيما نلاحظه عادة من فروق من نظرة سكان الريف ونظرة سكان المدن إلى المال والكسب المادي. تلاحظ اختلاف بينهما في النظرة إلى الحاجات الإنسانية من حيث اعتبارها محدودة أو غير محدودة. ولا شك في أن النظر إليها على أنها محدودة أقدر على تحقيق الرضا بالحياة.