أعتبر نفسي سعيد حظ إذ تعلمت في مدارس حكومية، ثم في جامعة حكومية، عندما كانت الحكومة المصرية لا تزال تحسن إدارة المدارس والجامعات، سواء في تحديد المقررات الدراسية أو في اختيار وإعداد المدرسين، صحيح أنى أنتمي إلى جيل من أواخر التلاميذ الذين حظوا بهذه الميزة، كما أن الجزء الأخير من دراستي الثانوية كان فيما سمي وقتها بالمدارس النموذجية، عندما خشي بعض خبراء التربية أن يؤدي التوسع في التعليم، وتطبيق المجانية، إلى انخفاض مستوى التعليم فنصحوا بإنشاء هذه المدارس النموذجية. ولكن الجزء الأكبر من دراستي، حتى انتهاء المرحلة الثانوية، كان في مدارس حكومية عادية.

لم يكن أحد يشكو وقتها من ارتفاع المصاريف المدرسية، وإن كان معظم العائلات المصرية محرومة من المدارس، إما لأنها من سكان الريف، أو من فقراء المدينة الذين لم يكن يخطر ببالهم أصلاً أن أولادهم وبناتهم يمكن أن يحظوا بنفس فرص التعليم التي تحصل عليها عائلات الطبقة الوسطى. أما «الطبقة العليا». فكانت لها مدارسها الخاصة التي تدرس بلغات أجنبية.

كان كل هذا قبل قيام ثورة 1952 التي أدت إلى الاهتمام لأول مرة بنوع الحياة التي يحياها ما لا يقل عن ثمانين بالمائة من السكان. كانت الحكومة الوفدية السابقة مباشرة للثورة (والتي كان طه حسين فيها وزيراً للتعليم أو المعارف) قد أدخلت المجانية في المدارس، فجاءت الثورة ففرضت المجانية في الجامعات أيضاً. كان التوسع في التعليم إذن في العقود الأولى التالية لثورة 1952 مصحوباً بالمجانية أو بكلفة بسيطة، ولكن اقترن في العقود الأخيرة بازدياد الأعباء المالية التي تتحملها عائلات التلاميذ حتى أصبحت الآن مصدر قلق لنسبة كبيرة من هذه العائلات.

فابتداء من منتصف السبعينيات زاد الحديث عن مشكلة الدروس الخصوصية: التلاميذ يحتاجون إلى جهد إضافي يبذل خارج المدرس لمواجهة التدهور فيما يتلقونه من دروس في داخلها، والمدرسون يحتاجون إلى زيادة دخولهم من مصادر أخرى غير المرتبات، لمواجهة أعباء التضخم. وشيئاً فشيئاً أصبحت أعباء الدروس الخصوصية بنداً رئيسياً في ميزانية الأسرة يضحي رب الأسرة في سبيله ببنود أخرى (ولو بخفض الإنفاق على الملابس أو الطعام). فهذا البند الخطير يتوقف عليه شيء أشد خطراً وهو المستقبل الذي تهون من أجله التضحية بأشياء كانت تعتبر قبل ذلك غير قابلة للمساس بها.

الظاهرة لها علاقة وثيقة بما طرأ على الدولة من عدم قدرتها على تحقيق الدخل الكافي لتحسين أحوال المدرسين، ولا تستطيع أيضاً إجبار المدرسين على احترام القواعد الخاصة بالدروس الخصوصية. وتجرأ المدرسون أكثر فأكثر على ممارستها، حتى أصبح ما ينفق عليه يشكل نسبة عالية، ليس فقط من دخول المدرسين، ومن الإنفاق العائلي، بل وأيضاً من الدخل القومي.

تفاقمت الظاهرة أيضاً بسبب «الانفتاح»، إذ أدى الانفتاح إلى زيادة الإنفاق اللازم للمحافظة على مستوى معيشة ملائمة للمدرسين، كما زاد الاحتكاك بالعالم الخارجي فزادت المقارنات بين مستوى التعليم عندنا وعندهم، كما زادت التطلعات والطموحات إلى فرص العمل بالخارج، ما يتطلب اكتساب مهارات لم تعد مدارسنا الحكومية قادرة على توفيرها.

شجع هذا كله مع زيادة الإقبال على إنشاء المدارس الخاصة (مصرية وأجنبية)، حتى أصبح إنشاؤها من أعلى فرص الاستثمار الخاص إدراراً للربح، وزادت جاذبيتها للأسر المصرية، ومع استمرار الضعف إزاء هذه المدارس (مثلما ظهر في غير ذلك من سياسات) نمت ظاهرة جديدة هي «الازدواجية»، حيث زاد انقسام المجتمع أكثر فأكثر، إلى طبقتين، من حيث نوع التعليم الذي يتلقاه التلاميذ، ما يمكن ملاحظته (بكل أسف) حتى في داخل الكلية الواحدة، حيث يتلقى بعض التلاميذ دروسهم باللغة العربية، ويتلقاها غيرهم، مقابل مصاريف أعلى، بلغة أجنبية، وهذا الانقسام كفيل بالطبع بنمو مشاعر المرارة من ناحية، وبالتعالي والزهو من الناحية الأخرى.

لقد اعتدنا لفترة طويلة من الزمن أن نعتبر «الدولة» هي المسؤولة عن تحقيق المصالح العليا للمجتمع، والتي تعلو على المصالح الفردية المتضاربة. ويبدو لي من الواضح وضوح الشمس أن من بين هذه المصالح العليا حماية المجتمع من التمزق والانقسام. فلا يجوز في رأيي التذرع هنا باحترام الحافز الفردي من سطوة الدولة وطغيانها. إننا هنا نتكلم عن شيء وثيق الصلة بوجود المجتمع نفسه واستمراره. فمهما اشتد حماس المدافعين عن الحرية الفردية وتشجيع الحافز الفردي، لابد أن يتوقف هذه عند الحد الذي يبدأ بعده تهديد وحدة الأمة.