هل سبق أن رأيت أحد قادة أمة الغرب يلقي مواعظ وتساءلت في سرّك عن سبب انسلاخه إلى هذا الحدّ عن الوقائع الحياتية اليومية؟ ها أنت تذهب إلى العمل كل يوم، وتتولى أعباء الحياة وتتقيّد ببنود القانون وتتساءل لماذا يبدو القادة الذين تشاهدهم في التلفاز وكأنهم يعيشون على كوكب آخر.
متى كانت المرة الأخيرة التي اعترضت فيها على الهجرة غير الشرعية في بلدك، ليطالعك قادة الغرب بخطابات وتصرفات لا تشكل إلا غطاءً بلاغياً لحالات انتهاك القانون.
أهلاً بك إلى عالم إشارات الفضيلة حيث اهتمام القادة مركّز على إلقاء خطابات واعظة من على سدد المنابر أكثر من اكتراثهم بالحكم العقلاني. ويلجأون إلى ذلك لأن اللعب على وتر عواطف الناس الأساسية ينجح على الدوام، كشكل من أشكال تأثير الأقران أو الابتزاز بالأحرى.
وغدا هذا التكتيك من الشيوع بحيث يصاب عدد من المواطنين بالتوتر حين يخفق قائد ما في الانغماس في لغة الإشارة إلى الفضائل. وهناك أمثلة متعددة عن أشخاص في أوروبا وأميركا الشمالية ممن أدانوا الرئيس الأميركي دونالد ترامب بسبب «طريقة كلامه» أو «الأمور التي يتلفظ بها».
وحين تسأل عن التصرفات المحددة لترامب التي أدت إلى الإشكالية السياسية، فيما يتعدى الخطاب نفسه فإنهم لا يملكون الإجابة. إنهم مجرد أسرى عواطف اليسار الذي جرّدهم من أي قدرة على التفكير التحليلي. كل ما يعرفونه هو أن كلام ترامب يثير حفيظتهم، وأن سياسة الحكومة لا بدّ أن تتناغم مع عواطفهم.
لذا بالكاد يبدو مفاجئاً كمّ الإدانة ووصف النقاد اليساريين لترامب بالظالم لدى حديث أوساط الإدارة عن نية الرئيس إعادة التفكير في التشريع الذي صدر في عهد الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما، والذي ينص على السماح لأولاد المهاجرين ممن لا يملكون أوراقاً ثبوتية رسمية من الوافدين إلى أميركا في العام 2007 أو قبله من الحصول على تراخيص عمل قابلة للتجديد.
ويبرز من ضمن الأمثلة على هول الكارثة ممكنة الحدوث في حال سمح البالغون للعواطف في أن تملي عليهم أفعالهم التأمل في قضية الحدود الأميركية الكندية الراهنة، حيث يحصد رئيس وزراء كندا جاستن ترودو ما زرعت تلميحاته الضمنية آنفاً عبر تويتر حول ترحيب بلاده باللاجئين من أنحاء العالم، في حديث مناقض تماماً لترامب.
وكان سيل من آلاف المهاجرين من أصول هايتية قد تدفق إلى كندا من الولايات المتحدة في الأسابيع القليلة الماضية، خشية عدم حصولهم على تجديد أوراق الإقامة المؤقتة في أميركا بعد سبع سنوات من وقوع الزلزال الذي ضرب هايتي. واضطر الجيش الكندي لنصب الخيم على الحدود لإيواء جميع طالبي اللجوء. وفي حين انتظر هؤلاء أشهراً طويلة للبتّ في مسألتهم قضائياً، فقد تمكنوا من العمل والحصول على المساعدات، والفضل يعود إلى دافعي الضرائب الكنديين.
أما السبيل الوحيد الذي يتيح احتواء تلك الفوضى فيتم بإقناع الكنديين بأن ذلك يعكس صورة إنسانية جيدة عنهم. لكن الأمر المثير للسخرية هو أن المهاجرين بكليتهم تقريباً يحطون بشكل شبه حصري في مقاطعة كيبك الفرنكوفونية التي يجهد مواطنوها بكافة الوسائل للحفاظ على إرثها وحضارتها. إلا أنهم الآن يواجهون اجتياح مدّ المهاجرين في ظل اكتفاء حكومة ترودو بما لا يعدو المحاولات البائسة لإعادتهم. ولا بدّ لمصالح الكنديين والمهاجرين الشرعيين أن تنتظم في الصفّ خلف الذين يديرون لعبة النظام، ذلك أن التنوع يتغلب على المصداقية كورقة رابحة في لعبة اعتماد لغة الإشارات الفاضلة.
شهدت ألمانيا، في هذه الأثناء مناظرةً بين المستشارة الحالية أنجيلا ميركل وخصمها في الانتخابات رئيس البرلمان الأوروبي السابق مارتن شولتز. وقد تكلم المرشحان عن الحجم الهائل للاجئين في البلاد، والذي بلغ حدّ المليون مهاجر عام 2015 فقط، وكأنها مجرّد مسألة عادية.
لا يعتبر أي مما يجري عقلانياً، وكأن الحركة المعادية للرأسمالية قد تحوّلت في العقود القليلة الماضية إلى حركة مناهضة للعقلانية بمعنى أن نوع الرأسمالية الذي اعتاد النقاد مجابهتها لعقود كانت في الحقيقة مجرّد خدمات رعاية المؤسسات، أو في بعض الحالات فساداً يخدم مصالح محددة. وكان يكفي ببساطة التخلص من تدخل الحكومة والمال القذر في أوساط النظام، إلا أن ذلك لم يحصل. بل إن النقاد هاجموا النظام الرأسمالي المزيف من زاوية أخرى، ففرضوا شكلاً خاصاً من «إعادة توزيع الثروة» عبر الابتزاز العاطفي. وكانت «الثروة» ترادف في بعض الأحيان «الامتيازات»، واستفاد من إعادة التوزيع الفئة التي صنفها اليسار على أنها «الضحية».
وتعتبر إعادة التوزيع المزعومة تلك، البعيدة عن الجدارة والقائمة بكليتها على الفضائل اليسارية، ماركسية ثقافية، أما لغة الإشارات الفاضلة فبوقها، يدأب الراديكاليون في محاولاتهم لاختطاف المجتمعات الديمقراطية عن طريق استخدام تلك التكتيكات، إذا استطاعوا التحكم بالمواطنين عبر الابتزاز العاطفي، فسيتمكنون من استبدال أي ولاية انتخابية والتربع في السلطة.
إن النظام الحقيقي الذي يعتمد تقدمه على المقدرة والعطاء الفرديين بمعزل عن الأصل والجنس هو وحده المجتمع العادل.، وإن قادة مثل ترامب يرفضون الانزلاق إلى حضيض القضايا الاجتماعية التقسيمية، ويصرون على تكافؤ الفرص وحماية الوطن واحترام القانون هم الركيزة الوحيدة الباقية الفاصلة بين الحضارة والفوضى.