كم يدهشني الآن، ما أتذكره من موضوعات كانت تشغل بال المثقفين المصريين منذ خمسين أو ستين عاماً (وربما المثقفون في خارج مصر أيضاً)، ولم تعد تشغلهم الآن، بل ولا تكاد تخطر ببالهم.
أذكر مثلاً ما احتدم من نقاش حول إذا كانت الاشتراكية التي يجري تطبيقها في بعض البلاد العربية (وعلى الأخص في مصر) يمكن وصفها بـ«الاشتراكية العربية»، أم يحسن الاقتصار على وصفها بالاشتراكية؟ أذكر استياء المثقفين الماركسيين من وصفها بـ«العربية»، إذ كانوا يؤكدون أن الاشتراكية هي الاشتراكية في أي مكان، وليست هناك اشتراكية عربية وأخرى ماركسية أو أوروبية.. الخ.
كان أنصار النظام القائم وقتها من غير الماركسيين يفضلون وصف ما يفعله النظام بالاشتراكية العربية، إمعاناً في تأكيد أنهم ليسوا شيوعيين بل محايدين بين الشرق والغرب.
مما أذكره أيضاً من الموضوعات التي احتدم حولها النقاش في الخمسينات وأوائل الستينات ما إذا كان الفن للفن أم الفن للحياة؟ كان الماركسيون والاشتراكيون عموما من أنصار «الالتزام» في العمل الأدبي أو الفني، ويكرهون أن يدعي أحد أن الفنان لا ولاء له إلا لفنه، بينما كان غيرهم ممن لا ينتمون إلى مذهب سياسي أو اجتماعي يفضلون الاعتراف للفنان بحريته، ويكرهون أن يحاسب الفنان على موقفه الاجتماعي أو على عدم اتخاذه موقفا اجتماعيا على الإطلاق.
في منتصف الخمسينيات نشر مفكران مصريان مرموقان (هما عبدالعظيم أنيس ومحمود أمين العالم) كتابا صغيرا حقق شهرة كبيرة ودارت حوله المناقشات والمناظرات، بعنوان «في الثقافة المصرية»، وكان يهدف إلى تأكيد رسالة معينة: أن الأدب (والفن عموما) يجب أن يقيم ليس فقط على أساس قيمته الفنية بل وأيضاً حسب المصالح الطبقية التي يخدمها.
وقد استغرب بعض كتابنا الكبار الذين كانوا يحتلون عرش الثقافة في مصر (مثل طه حسين وتوفيق الحكيم وعباس العقاد) أن يحاسبوا على شيء آخر غير قيمتهم الأدبية، ولكن هؤلاء النقاد الشبان كانوا يشتعلون حماساً لقضيتهم، ويعتبرون أن الأمر قد تم حسمه لمصلحتهم ولا يجوز التردد فيه. الأديب الملتزم اجتماعيا هو في نظرهم أفضل من غيره.
لابد أن من بين الأسباب ما كان من انقسام العالم إلى عالمين «اشتراكي» في الشرق و«رأسمالي» في الغرب، واحتدام المنافسة بين الاثنين. كان هذا النقاش جزءاً من حرب باردة أو فكرية بين المعسكرين، لكن ربما كان هناك أيضاً سبب أكثر عمقاً، هل يجوز القول إن مسألة «الالتزام» نفسها قد أصبح مشكوكا فيها إلى حد كبير؟
قضية الالتزام أو عدمه قضية أخلاقية في نهاية الأمر، ومن الممكن الزعم بأن نصف القرن الماضي قد شهد انحسارا في التقييم الأخلاقي للسلوك أو الموقف السياسي لحساب الاعتبارات الاقتصادية.
أحيانا أقول لنفسي: كم كانت تلك الفترة من القرن العشرين (فترة الخمسينيات والستينيات) فترة جميلة ولو لهذا السبب وحده، بعد ذلك حل التنافس الاقتصادي والسياسي محل التنافس الأخلاقي، ومن ذلك اختفاء أو انحسار المباهاة والتنافر بنوع الولاء أو طبيعة الالتزام، بالمقارنة بنوع الولاء أو الالتزام لدى الآخرين أو غيابهما أصلاً.
هل يمكن حقاً أن يكون قد طرأ مثل هذا التغيير المهم على سلوك الناس وعلى ما يصدرونه من أحكام على الآخرين، بمرور الزمن؟ فلنتذكر أولا ما كان يتسم به زعماء مثل جون كينيدي في الولايات المتحدة، ونيكيتا خروتشوف في روسيا من صفات شخصية، بل قد نضيف بعض زعماء العالم الثالث، مثل نهرو في الهند وعبدالناصر في مصر، ونيكروما في غانا، وتيتو في يوغوسلافيا.. الخ.
فهل كان ظهور أمثال هؤلاء الزعماء في ذلك الوقت محض مصادفة؟ وهل كانت سماتهم الشخصية هي السبب فيما اتخذوه من مواقف أم أن الظروف السائدة حينئذ (اجتماعية أو سياسية أو اقتصادية) هي التي سمحت بظهور زعماء من هذا النوع، فلما تغيرت الظروف تغيرت ملامح الزعماء؟ أشياء كثيرة مهمة حدثت خلال نصف القرن الماضي، من أهمها فيما أظن ظهور وتطور ما يسمى بـ«المجتمع الاستهلاكي».
«الاستهلاك» كان بالطبع موجودا دائما، لكن المجتمع لم يكن «مجتمعا استهلاكيا»، بمعنى تقييم النجاح الفردي والسياسي بمعيار مستوى الاستهلاك.. كان التقييم في الماضي يستند بدرجة أكبر بكثير على قيم أخلاقية، بينما تراجعت هذه القيم خلال نصف القرن الماضي لحساب التقييم الاقتصادي مثل هذا التغيير، لابد أن يترتب عليه تغيير في نوع الزعماء وقد يكون هو السبب في اختفاء مناقشات كانت شائعة في الخمسينيات والستينيات، من نوع: «هل هذه اشتراكية عربية أم اشتراكية فقط؟» أو «هل الفن للفن أم الفن للحياة؟».