يؤرخ لنشأة علم الاقتصاد، عادة، بظهور كتاب آدم سميث الشهير (ثروة الأمم) في سنة 1776. كانت هناك كتابات كثيرة قبل ذلك في الشؤون الاقتصادية، ولكنها كانت تختلط بأفكار في غير الاقتصاد، كالسياسة والاجتماع. بل حتى آدم سميث نفسه، الذي خطا خطوة كبيرة في تحقيق الاستغلال لعلم الاقتصاد، كان أستاذاً للأخلاق وليس في الاقتصاد.
بعد ذلك بمئة عام، أي في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، خطا الاقتصاديون خطوة أخرى كبيرة نحو الاستقلال لعلمهم عن بقية العلوم الاجتماعية، عندما نشأت المدرسة النمساوية، وعندما نشر الفرنسي فالراس (Walras) كتاباً باسم مبادئ علم الاقتصاد الخالص (Pure)، والإنجليزي مارشال كتاباً سماه (مبادئ الاقتصاد).
منذ ذلك الوقت زاد تخصص الاقتصاديين أكثر فأكثر، فأصبح من النادر أن يكتب أحد كتاباً يغطي كل أو حتى معظم الموضوعات الاقتصادية (من توزيع الدخل إلى النمو الاقتصادي إلى التجارة الدولية إلى التضخم..الخ)، بل اتجه كل كاتب إلى التخصص في فرع معين في فروع الاقتصاد، مثلما حدث في العلوم الاجتماعية الأخرى.
أذكر أني عندما كنت طالباً في كلية لندن للاقتصاد والعلوم السياسية، شكا بعض الأساتذة مما حدث من انفصال بين العلوم الاجتماعية والإنسانيات، واقترحوا أن يعقدوا ما يسمى بقاعة بحث (seminar)، يجلس فيها أساتذة من مختلف الفروع للتخلص من الآثار السيئة للإمعان في التخصص، على أساس أن معظم المشكلات الاجتماعية لها جوانب متعددة، اقتصادية واجتماعية وقانونية..الخ، ولا يمكن الوصول فيها إلى نتائج مفيدة بالاعتماد فقط على ما يكتبه أو يقوله كل متخصص في فرعه، أو كما قال أستاذ شهير في علم الاجتماع: «ليس هناك مشاكل اقتصادية وأخرى سياسية وأخرى اجتماعية. هناك فقط مشاكل، وهي معقدة.
حضرت بعض هذه الجلسات، وثارت في المناقشات مشكلة أقرب إلى الفلسفة منها إلى الاقتصاد، فنظر الجالسون لأستاذ الفلسفة لإبداء الرأي فإذا به يقول مبتسماً (وبشيء من السخرية) آسف؛ فأنا متخصص في فلاسفة القرن الثامن عشر وهذه المشكلة تتعلق بالقرن التاسع عشر!
من الممكن إذن أن يصل التخصص إلى درجة يصبح معها من الصعب (وربما من المستحيل) الوصول إلى حلول حاسمة لبعض المشكلات المهمة. أذكر مثلاً أنه عندما وقعت الأزمة المالية العالمية في سنة 2008، وكان كثير من الاقتصاديين من قبل وقوعها يتوقعون العكس بالضبط، أي انتعاشاً اقتصادياً ومالياً بدلاً من الكساد، ذهبت ملكة بريطانيا إلى كلية لندن للاقتصاد، والتقت ببعض أساتذتها وعبرت لهم عن استغرابها من أنهم لم يحذروا من حدوث الأزمة قبل وقوعها، فإذا ببعضهم يقول لها إن الخطأ ناتج عن الإمعان في التخصص، فضلاً عن لجوء معظم الاقتصاديين إلى الاعتماد على النماذج الرياضية البعيدة عن الواقع بأسره، سواء كان اقتصادياً أو سياسياً أو اجتماعياً.
قد نكون جميعاً مستعدين للاعتراف بأن التخصص قد زاد عن الحد المقبول، ومع ذلك لا نكف عن الانشغال بجانب دون آخر من جوانب أي مشكلة طبقاً لتخصص كل منها. ومن النادر أن نجد من يغامر بتناول الجوانب المختلفة معاً، إذ يبدو أننا، نحن المشتغلين بالعلوم الاجتماعية، نفضل في النهاية (وفق التعبير الساخر) أن نخطئ بدقة على أن نصل إلى الحقيقة بالتقريب!
العالم كله سائر في هذه الاتجاه. ففي العصر الذي يشهد ما يسمى «ثورة المعلومات»، يبدو أن الميل إلى التخصص ينتشر أكثر فأكثر، على الأقل لصعوبة الإحاطة بالمعلومات المتاحة في أي فرع من فروع المعرفة، فما بالك بفروع متعددة؟ وانتشار استخدام الأساليب الرياضية يقوي أيضاً هذا الاتجاه نحو التخصص، إذ يستبعد ما لا يمكن أو يصعب قياسه، فإذا بنا نكتفي بالاعتماد على الجوانب القابلة للقياس في أي مشكلة. هذا إضافة إلى المزايا الاجتماعية التي يتمتع بها في هذا العصر ويسمون «بالخبراء» وهؤلاء يحرصون عادة على تجنب الخوض في غير تخصصهم.
نعم هناك اتجاه متزايد إلى المزيد من التخصص، ولكن الثمن الذي ندفعه لهذا الإمعان في التخصص ثمن باهظ. هذا الثمن الباهظ يتعلق بالتمييز بين المعرفة والحكمة. فالشخص الحكيم قد يكون أقل إحاطة بالمعلومات من شخص آخر واسع المعرفة ولكنه -أي الحكيم- قادر على التمييز بين المهم والأقل أهمية، ولا يشغل نفسه بتوافه الأمور مثلما يفعل كثير من المتخصصين.