ما أكثر ما نتكلم عن حاجتنا إلى تجديد الخطاب الديني، ونعود فنكرر هذا الكلام كلما وقع حادث مما يسمى «الأعمال الإرهابية»، وكأن هذه الأعمال الإرهابية مجرد نتيجة «لخطاب خطأ» فيكفي تصحيح الخطاب لكي يتوقف الإرهاب.
هذا الظن ناتج في رأيي عن فهم خطأ للعلاقة بين الفكر والواقع، صحيح أن أي عمل لا بد أن يكون نتيجة لفكرة طرأت على ذهن ما، ولكن سيطرة مجموعة من الأفكار على أذهان الناس هي في الغالب نتيجة لسيادة ظروف معينة أدت إلى شيوع هذه الأفكار دون غيرها.
الأمثلة التاريخية التي تؤيد هذا الرأي كثيرة جداً، فلم يكن وجود نظام الرق في اليونان القديمة نتيجة اعتناق الناس لرأي أرسطو أو أفلاطون المؤيد لنظام الرق، بل وجد نظام الرق واعتمد الاقتصاد اليوناني عليه قبل أن يقول أرسطو أو أفلاطون رأيهما فيه. كذلك فإن شيوع الاعتقاد بقلة حيلة الإنسان أمام القضاء والقدر، طوال العصور الوسطى في أوروبا، لم يكن استجابة لرأي مفكر أو مجموعة من المفكرين، بل كان على الأرجح نتيجة لاستمرار الأحوال الاقتصادية والاجتماعية على ماهي عليه قرناً بعد قرن، فترسخ الاعتقاد بعجز الإنسان عن إحداث أي تغيير بإرادته.
والتغير الذي طرأ على الأفكار في أوروبا فيما يسمى بعصر النهضة، لم يكن هو الذي أدى إلى ازدهار التجارة والاقتصاد في ذلك العصر، بل العكس هو الأرجح، أي أن ازدهار التجارة هو الذي أدى إلى ظهور أفكار جديدة في عصر النهضة، تعلي من شأن الإرادة الإنسانية وتؤكد قدرة الإنسان علي تغيير حياته، إذ كان هذا صحيحاً فإن «تجديد الخطاب» يبدو أقل أهمية من «تجديد الواقع» الذي أدى إلى شيوع هذا الخطاب دون غيره.
إن التأكيد على أهمية تغيير الظروف الاقتصادية والاجتماعية ليس من شأنه تحقير الإنسان أو التقليل من شأن الإرادة الإنسانية، ولكنه يعفينا من بذل مجهود لا طائل من ورائه، أو على الأقل يعفينا من بذل مجهود قليل العائد، ويؤدي بنا إلى بذل الجهد فيما يمكن أن يؤدي إلى النتائج المرجوة.
في تاريخ الفكر الاقتصادي مثال جيد على صحة هذا الرأي، ويتعلق بموقف الناس من اقتضاء فائدة على القروض. لقد استمرت مطالبة المقرض بفائدة على ما يقدمه من قروض، تعتبر عملاً غير مشروع وغير أخلاقي طالما كان الاقتصاد راكداً وحركة التجارة والنمو الصناعي محدودة.
في مثل هذه الظروف كان معظم ما يقدم من قروض تلبية لحاجات ضرورية، أو لمواجهة ظروف قاسية مر بها طالب القرض، ومن ثم كانت المطالبة بفائدة على القروض في معظم الأحوال عملاً تأباه الأخلاق إذ ينطوي على استغلال من جانب شخص لآخر.
ظل حصول المرء على فائدة على القروض يعتبر في هذه الظروف من قبيل «الربا» المرفوض دينياً وأخلاقياً، ولكن مع تقدم التجارة والصناعة وازدهارهما، وازدياد حاجة المشتغلين بالتجارة والصناعة إلى الاقتراض للقيام بأعمالهم المشروعة، تحولت المطالبة بدفع فائدة على القروض إلى عمل مشروع أخلاقياً وقانونياً وحتى دينياً بمفهوم التعاملات الإسلامية.
صحيح أن المبالغة في تحديد سعر الفائدة قد تكون دائماً عملاً غير أخلاقي، ولكن ما المانع من أن يشارك المقرض في ما يحققه المقترض من نفع لا غبار عليه، في صورة الحصول على جزء مما يحققه المقترض من ربح، بأن يحصل المقترض على فائدة على رأس المال؟
مهما بح صوتنا في دحض الإرهاب وذم الإرهابيين، فإننا لن نقضي على الإرهاب بمجرد الكلام، ذلك أن الإرهاب، طالما كان ظاهرة داخلية وليس نتيجة لعمل خارجي بهدف التخريب، لابد أنه نتج عن ظروف اقتصادية أو اجتماعية أو سياسية غير مرغوب فيها، أو كل هذا معاً، ومن ثم فالقضاء عليها لا يتأتى إلا بتغيير هذه الظروف.
والتاريخ المصري يؤيد هذه النظرة فالإرهاب لم يكن دائماً معروفاً في مصر، بل يظهر فقط عندما تتأزم أحوال الاقتصاد والمجتمع، ثم تعود الأمور إلى الاستقرار كلما اتخذت إجراءات لتصحيح ما في الاقتصاد من خلل أو للقضاء على ما في العلاقات الاجتماعية من توتر، أو على الأقل التقليل من هذا التوتر، ولكن الإصلاح الاقتصادي وتخفيف التوتر الاجتماعي كليهما أصعب بكثير من الكلام، فما أسهل الكلام عن ضرورة محاربة الإرهاب بالمقارنة باتخاذ الإجراءات التي تؤدي إلي اختفائه من تلقاء نفسه. لا عجب إذاً أن الكلام عن «تجديد الخطاب»، أكثر بكثير من القيام بالأعمال الكفيلة بالقضاء على الحاجة إلى مثل هذا الكلام أصلاً.