فاجأتني صديقة عزيزة بمكالمة تليفونية في الصباح الباكر، لا للسؤال عن صحتي أو عن أخبار أسرتي، بل بالسؤال الآتي: «من المسؤول عن تخريب اللغة العربية؟»، كانت قد شاهدت لتوها برنامجاً تلفزيونياً نطق فيه المذيع بضع عبارات ركيكة، ومخالفة لقواعد اللغة، إذ وردت على لسانه كلمة «ايفينتات»، وهي مزيج غريب من الإنجليزية والعربية للتعبير عن «الأحداث» وكلمة «الوانات»، إذ لم يكتف قائلها بجمع «لون» مرة واحدة فجمعها أكثر من مرة وكلمة «الخبيري»، إذ لم يجد في كلمة «الخبير» ما يكفي للدلالة على المعنى.

شعرت بالأسف كما شعرت هي، وضاعف من أسفي أني كنت أقرأ في اليوم نفسه كتاباً من تراثنا القديم، يعود إلى القرن الرابع الهجري، وهو كتاب «الإمتاع والمؤانسة» لأبي حيان التوحيدي، وراعني جمال لغته، بل حتى ما فيه من سجع تذوقته وطربت له، رغم أننا تعودنا منذ صبانا أن نقرأ أو نسمع انتقاداً شديداً للسجع. قلت لنفسى أنه لا يعيب الكلام المقروء أو المسموع أن تكون له موسيقى، وأن السجع لا يكون بالضرورة على حساب عمق المعنى ولا يخل بالضرورة بجدية الموضوع أو خطورته.

نحن للأسف قد دأبنا منذ ما يقرب من قرن كامل، على النظر بريبة وقلة ثقة إلى ما يصدر عن مؤلفينا وكتابنا، ما لم يكن ترديداً واضحاً لشيء قاله الغربيون ودعوا إليه. وقد امتد أثر هذه النظرية إلى اللغة العربية نفسها، رغم ما في هذه اللغة من أوجه الجمال والقوة، والقدرة على التعبير عن أدق الظواهر النفسية والطبيعية، فعاملناها كما نعامل إنتاجنا الفكري والأدبي، ولو كان هذا الإنتاج يعود إلى عصر كنا فيه أعلى الأمم شأناً وأكثرها تقدماً.

ولكن هناك سبب آخر لما حدث لنظرتنا إلى اللغة العربية، والتدهور في درجة احترامنا لها، غير عقدة النقص، وهو ما حدث في العالم كله من زيادة تقدير الاعتبارات الاقتصادية على غيرها، وما اقترن هذا به من استهانة بأمور ضعيفة الصلة بالاقتصاد.

لقد شهدت أوروبا في ربع القرن التالي لانتهاء تلك الحرب معدلات للنمو الاقتصادي لم تعرف مثلها قط في تاريخها الطويل، وما أن حلت السنوات الأخيرة من الستينيات حتى شهد العالم الغربي ما عرف «بالمجتمع الاستهلاكي»، الذي يرفع من شأن النجاح في رفع مستويات الاستهلاك، سواء للفرد أو للأمة ككل، ويعليه فوق غيره من أنواع النجاح.

ما الذي جعل الاقتصاد يتقدم على غيره من الاعتبارات منذ منتصف القرن الماضي؟ هل هو ما نشأ من حرب باردة بين المعسكرين الرأسمالي والاشتراكي، هل هو بروز هدف «التنمية الاقتصادية» فيما سمي وقتها بالعالم الثالث، مما جعل نجاح أو فشل الدولة في رفع معدل النمو الاقتصادي هو الأساس في الحكم على نجاحها أو فشلها؟

أياً كان السبب، فقد اقترن إعلاء شأن الاعتبارات الاقتصادية بالاستهانة باعتبارات أخرى ثقافية أو نفسية أو روحية، بما في ذلك صيانة اللغة القومية.

إني أتأمل الإعلانات المنتشرة في كل مكان، وفي سائر وسائل الإعلام، وألاحظ بأسف شديد ما تدل عليه من لا مبالاة بقواعد اللغة. وكأن كسب بعض المستهلكين الجدد يبرر تعريض اللغة القومية لهذه الدرجة من المهانة. هذه اللامبالاة تلاحظ ليس فقط في الإعلانات المستخدمة لترويج السلع، ولكن أيضاً في خطب السياسيين والزعماء لترويج سياساتهم، التي تدور هي أيضاً حول إنتاج واستهلاك المزيد من السلع.

هكذا اقترنت «عقدة النقص» إزاء كل ما يفعله الغرب، بالميل إلى إعلاء شأن الاعتبارات الاقتصادية على غيرها، فانتهى الأمر بالضرورة إلى ما نراه من تهاون في التعامل مع لغتنا القومية.