في مطلع الستينيات من القرن الماضي، ظهر فيلم إيطالي للمخرج الشهير «فلليني»، حاز شهرة واسعة، وتردد اسم الفيلم بعد ذلك وشاء استخدامه للدلالة على نمط معين من الحياة.
كان اسم الفيلم «الحياة الحلوة»، وقد رسم الفيلم صورة (لم تكن مألوفة بعد وإن أصبحت مألوفة بعد ذلك في الغرب)، لحياة شريحة اجتماعية مترفة، تتمتع بوقت فراغ طويل وتقضيه في الاستمتاع بما سماه الفيلم «الحياة الحلوة».
كان ظهور ثم انتشار هذا النمط الجديد من الحياة في الغرب في أعقاب الحرب العالمية الثانية، نتيجة تكاد أن تكون حتمية بعد فترة من النمو الاقتصادي السريع وغير المسبوق، مع النجاح في تحقيق العمالة الكاملة، أي اختفاء البطالة، وتطبيق نظام يوفر للناس السلع والخدمات الضرورية بأسعار زهيدة للغاية أو دون مقابل.
من البديهي أن هذا النوع من «الحياة الحلوة» كان جديداً تماماً على دول الغرب الصناعية. ولا شك في أن معني «الحياة الحلوة» في أوروبا وأميركا يختلف الآن اختلافاً كبيراً عن معناه عندما ظهر ذلك الفيلم منذ نحو نصف قرن.
خطر لي أن أتتبع مفهوم «الحياة الحلوة» في مصر منذ طفولتي وحتى الآن، فإذا بي أكتشف تطوراً هائلاً في هذا المفهوم خلال هذه الفترة ما يثير تساؤلات كثيرة عن أسبابه ومغزاه.
ما زلت أذكر جيداً درجة التواضع الذي كان يتسم به مفهوم «الحياة الحلوة» عند الطبقات المختلفة في مصر في الأربعينيات من القرن الماضي من السهل أولاً أن نستبعد أكثر من ثلاثة أرباع الشعب المصري الذي كان لا يكاد يجد ما يسد رمقه في ذلك الوقت أو ما يحمي قدميه، إذ سار في الشارع، نعم كانت هناك طبقة مترفة.
وإن كانت تتمتع به هذه الحفنة الصغيرة من الناس كان محدوداً أيضاً بحدود التكنولوجيا المعروفة في ذلك الوقت، وما كانت نتيجة من سلع الاستهلاك، كما كان محدوداً أيضاً بدرجة اتصال هذه الطبقة بالغرب، ومدى معرفتها بمستوى الاستهلاك في الدول الأعلى دخلاً.
الملاحظة نفسها تنطبق على الطبقة الوسطي المصرية، التي لم تكن تشكل أكثر من عشرين في المئة من السكان في الأربعينيات، فقد كانت الحياة الحلوة في نظرها محكومة بهذه الأشياء الثلاثة: مستوى الدخل، ونوع السلع التي يمكن إنتاجها بالتكنولوجيا المعروفة وقتها، ودرجة اتصال هذه الطبقة بالعالم الأكثر ثراء.
مم كانت تتكون «الحياة الحلوة» في نظر الطبقة الوسطي المصرية في أربعينيات القرن الماضي، وهي الطبقة التي أعرفها أكثر مما أعرف غيرها؟
دعنا نتذكر أولاً أنه في ما يتعلق بالأكل والشرب والملبس، كانت فرص استيراد الأصناف الأجنبية إلى مصر محدودة بنفقات وسرعات وسائل النقل المتاحة حينئذ. لم يكن الطيران التجاري (بل ولا حتى الطيران المدني كله) شيئاً مألوفاً في ذلك الوقت. كان استيراد الملابس الأجنبية يكاد يقتصر على استيراد «القماش الانجليزي»، ولا يشمل حتى البدلة الجاهزة أو الفستان الجاهز، بل كان يعتمد في ذلك على خياطين مصريين.
دخلت زجاجة الكوكاكولا إلى مصر في منتصف الأربعينيات، ولحقت بها البيبسي بعد قليل، ولكن ظلت كل منهما عاجزة عن قهر زجاجة «الاسباتيس» المصنوعة في مصر (والتي كانت قريبة من مذاقها من مشروبات السفن آب الحالية). والأهم من هذا أنه لا هذه الزجاجة أو تلك كانت قادرة على استئصال معنى إرواء الظمأ الذي استمر لفترة طويلة بعد ذلك لا يعني إلا تناول «كوب من الماء» وليس تناول مشروب غازي محلي بالسكر.
استمر المصريون من الطبقة الوسطي إذاً طوال الأربعينيات يعتمدون في غذائهم وشرابهم وملابسهم على المتاح من إنتاج بلدهم، ولا يدخل في تكوين «الحياة الحلوة» في نظرهم تناول مأكولات أو مشروبات أو ملابس مستوردة. كذلك كان معنى المسكن الجيد والأثاث الذي يمكن الطموح إليه بدوره معنى متواضعاً للغاية. كانت هناك بالطبع أحياء سكنية أرقي من غيرها.
فالزمالك وجاردن سيتي ومصر الجديدة كانت بلا شك أرقى من باب الشعرية والقلعة في القاهرة، كما كانت أحياء استانلي ورشدي وسان استيفانو في الإسكندرية، أرقى من حي الأنفوشي ومحرم بك، ولابد أنه كان من قبيل التمتع «بالحياة الحلوة» أن تسكن في النوع الأول من أحياء القاهرة أو الإسكندرية، بما قد يسمح لك مثلاً بأن تكون عضواً في نادي الجزيرة أو هليوبوليس أو سبورتنج، التي لا يوجد مثيل لها في الأحياء الشعبية.
ولكن متي دخلت بيتا من بيوت الطبقة الوسطي في مصر في الأربعينيات، لم تجد في نمط الحياة أو نوع الأثاث المستخدم إلا أقل القليل مما يمكن أن يوصف الآن بلوازم «الحياة الحلوة»، فالثلاجة والغسالة الكهربائيتان لم تدخلا بيوت الطبقة الوسطي المصرية إلي في أواخر الأربعينيات.
إذ كان الاعتماد إما على القلل الفخارية وإما على الثلاجة التي لا تزيد عن صندوق يوضع في أعلاه لوح من الثلج يجري استبداله كلما ذاب من الحرارة، وعلى الغسالة الآدمية التي تأتي بنفسها إلى البيوت، أو على مجهود ربة البيت نفسها.
إن ما سوف يدهش بلا شك من لم يعش فترة الأربعينيات في مصر هو كيف كانت الطبقة الوسطي تعتمد اعتماد يكاد يكون كلياً على وسائل المواصلات العامة: الترام والمترو والأوتوبيس والقطار.
حيث كان التنقل بسيارة خاصة شيئاً نادراً للغاية ومقصوراً على الطبقة العليا. لم تكن السيارة الخاصة إذاً من عناصر «الحياة الحلوة» في نظر الطبقة الوسطي، لم تكن حياة الطبقة الوسطي في مصر في الأربعينيات بائسة على الإطلاق، ولكنها كانت أبعد ما تكون عما كان يعنيه الفيلم الإيطالي «الحياة الحلوة» إذا احتاج الوصول إلى هذه الحياة الحلوة التي تتحقق أشياء كثيرة لم تتحقق في مصر إلا بعد انقضاء ما لا يقل عن ربع قرن آخر من الزمن.