في عام 1983 نشر أحد الباحثين ويدعى ديفيد تشوم ورقة بحثية أظهرت مفهوم المال الرقمي، الذي ظل موجوداً كفكرة من الناحية النظرية منذ ذلك التاريخ وحتى عام 1990، إذ أسس ديجيكاش في أمستردام شركة دفع إلكترونية، هدفت إلى تسويق أفكار بحث ديفيد تشوم.

إذ ذلك وفي عام 1997، قدمت شركة كوكا كولا للعملاء خيار شراء منتجها من خلال آلات البيع باستخدام هواتفهم النقالة، وبحلول عام 1998، كانت باي بال قد ضربت السوق. ثم توالت أسماء أخرى لشركات عدة آخذة في الظهور في الوقت ذاته مثل البريد الإلكتروني، وبحلول عام 2008، ولد البيتكوين.

أطلقت العملة الرقمية «البيتكوين» في عام 2009، وتضاعفت شعبيتها في فترة وجيزة وكانت طوال الوقت في انتقال من قوة إلى قوة، يتضح ذلك من قيمتها التي بدأت من $ 1 حتى وصلت إلى ما يربو على 16000 $، ولعل ملامح هذا الازدهار يظهر لك في بعض البلدان التي يمكنك أن تجد فيها أجهزة الصراف الآلي للبيتكوين، وكثير من التجارات على الإنترنت يمكنك شراء منتجاتها وخدماتها باستخدام العملة الرقمية.

وفي عام 2011 أطلقت عملة لايت كوين LITECOIN وهي المرتبة الثانية بعد العملة الذهبية البيتكوين وتسمى لايت كوين بالعملة الفضية، وتم إنشاؤها من قبل خريج معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا ومهندس جوجل السابق، تشارلي لي، وتمثل شبكة عالمية مفتوحة المصدر للدفع، ولا يسيطر عليها أي سلطة مركزية، وهي كالبيتكوين تستخدم البلوكتشين كمنصة لها «انكريبت» كدفتر الأستاذ الذي يسجل عليه عمليات التعدين.

وفي عام 2015 أنشئت العملة الرقمية الإثريوم ETHEREUM، ويعد منصة لامركزية يمكن من خلالها استخدام العقود الذكية، محمية من خطر الاحتيال، أو السيطرة من أي طرف ثالث ويمكن استخدامها للـ«تدوين»، بلا مركزية لعمليات التعدين وكذلك التجارة.

منذ البدايات المتواضعة للعملات الرقمية والتطور يصاحبها بوتيرة سريعة، حتى أصبح هنالك مجموعة واسعة متنوعة من العملات الرقمية منها باي بال، إيكاش، ويب ماني، بايونير، كاشو، وفين، بيتكوين، ليتسوان، تموج، دوغسوان، مونيرو، زكاش، يوتا وإثريوم. ويمكن للمستهلكين أيضاً الاختيار من بين هذه المحافظ الرقمية التي يتم تخزينها على هواتفهم النقالة من دون أي صعوبات في الدفع.

إن مفهوم المال الرقمي قد تطور إلى نظم لامركزية مثل العملات الخفية، ويعبر عنها بالـ كريبتوكيرنسي كرمز للعملات المشفرة التي تسهل كل من التعدين، وكذلك نقلها من خلال شبكات الند للند.

موقف الحكومات من العملات الرقمية كان سلبياً نوعاً ما، فبعضها رفضت الاعتراف بالعملات الرقمية كشكل مالي، وبعضها ذهب إلى التعامل معها من خلال الحظر وتقييد الاستخدام، ومع ذلك فالحديث عن مستقبل هذه العملات يخبرنا أن المسألة مسألة وقت فقط حتى يحين الوقت المناسب لتسلم كل هذه الحكومات بالأمر الواقع وتتخذ القرار، وتشرع استخدام العملات الرقمية.

لقد استغلت فوائد البيتكوين المتمثلة في اللامركزية وعدم الكشف عن الهوية في المعاملات في مجموعة من الأنشطة غير القانونية، بما في ذلك غسل الأموال، وبيع المخدرات، والتهريب، وشراء الأسلحة. وقد أصدرت إدارة الخدمات المالية في دول تسمح بتداول العملات الرقمية أوامر استدعاء شركات الدفع الإلكترونية الناشئة، تعامل الكثير منها مع شركة بيتكوين، وبحثت معها عن تدابير لمنع غسيل الأموال وضمان حماية المستهلك.

لقد كان مبعث القلق المتزايد لتلك الحكومات من التعامل بالعملات الرقمية سببه جرائم غسيل الأموال التي كانت تتم من خلال الذهب الإلكتروني، وليبرتي ريسرف، لكن ما تثبته لنا الأيام تجاه هذا النوع من الاقتصاد والتفنيد المستمر لتلك المخاوف يجعل مستقبل العملات الرقمية مشرقاً جداً والاستشراف له إيجابياً وممكناً.

ورغم أن الحديث أو التكهن بمستقبل أي شيء، بما فيه هذه العملات الرقمية التي وصل عددها إلى أكثر من 740 نوعاً، يبدو صعباً بكل المقاييس على الكثير من البشر، بل وحتى علماء الاقتصاد أنفسهم، إلا أن ما يمكن الاتفاق عليه هو أن هذا العدد الذي ظهر من أنواعها في فترة قياسية بالإضافة إلى تطور أجهزة وأنظمة الذكاء الاصطناعي والتوجه نحو اقتصاد المعرفة يؤكد استمراريتها في النمو، بالضرورة، والقول كما يعتقد الكثيرون أنه بمجرد وفاة أحد، أو جعله غير قانوني، فإنه سوف يطفو في مكانه على السطح قول غير صحيح، والطريقة التي تتطور بها الأشياء والعلوم في هذه اللحظة تؤكد ذلك، بمعنى أن الاقتصاد الرقمي لن يموت مع موت إحدى هذه العملات، والحقيقة هي أنه بعد أزمات مالية عالمية عدة، وتزايد انعدام الثقة بشكل عام في البنوك، يحب الناس فكرة العملة التي لا يسيطر عليها أحد، خصوصاً مع ذلك الشعور المتزايد باستمرار أن الأخ الأكبر يراقب، وحينها تصبح العملات الرقمية طريقاً آمناً لا يخضع للرقابة أثناء الشراء والبيع والحفظ والاستثمار والتجارة ولا يخضع للمساءلة ولا ملاحظات طرف ثالث، وهكذا فإن التعامل من خلال العملات الرقمية يعطي الناس الحرية في الانفصال عن النظم والسلطات المركزية، ويعيد السلطة مرة أخرى للجمهور للسيطرة على ثرواتهم وقيمة المال لديهم.

ومع استمرار خطر انهيار الاقتصادات في الوقت الحاضر، فإن العملات الرقمية تخفف من ضغوط انهيار العملة الحقيقية، لكن شعبيتها لن تكون كبيرة في الوقت الراهن، بمعنى أنها ستتزايد على مراحل وليس دفعة واحدة، والمتوقع أن شعبية هذه العملات الرقمية سوف تستمر في الازدهار، فالجماهير لها طبيعة الوحش من حيث إنها قابلة للتكيف، وتستجيب أخيراً، وتتواءم مع التكنولوجيا إلى أبعد حد، بالإضافة إلى أن المطورين على استعداد للتغلب على أي عقبة قد يتم طرحها عليهم.

*مستشارة اقتصاد معرفي