ذكرت في مقالات سابقة أهم ملامح ومظاهر اقتصاد المعرفة، التي جاءت متزامنة مع التطورات التكنولوجية الكبيرة في العالم، ومن ذلك ما تفرع من هذا العلم كهندسة المعرفة وإدارة المعرفة ومجتمعات المعرفة وزراعة المعرفة، إضافة إلى المظاهر الأخرى، التي برزت معه ومنها العملات الرقمية والبلوكتشين، وإنترنت الأشياء، والواقع المعزز، وبرامج الذكاء الاصطناعي، وتقنية النانو، والطاقة النظيفة، وتقنية البيانات الضخمة (Big Data)، التي هي موضوع هذه المقالة.

يمكننا في البدء أن نعرف ماذا يقصد بالبيانات وما الفرق بينها وبين المعلومات، وماهي أهم سماتها، لنجد أن البيانات هي الصورة الخام للمعلومات قبل عمليات الفرز والترتيب والمعالجة، ولا يمكن الاستفادة منها بصورتها الأولية قبل المعالجة، وأما المعلومات فهي البيانات التي خضعت للمعالجة والتحليل والتفسير، والتي يمكن الاستفادة منها في استنباط العلاقات المختلفة بين الظواهر واتخاذ القرارات.

ويمكن تقسيم البيانات الخام إلى ثلاثة أنواع هي البيانات المهيكلة وهي المنظمة في صورة جداول أو قواعد بيانات تمهيداً لمعالجتها، والبيانات غير المهيكلة وتشكل النسبة الأكبر من البيانات وهي البيانات التي يولدها الأشخاص يومياً من كتابات نصية وصور وفيديو ورسائل ونقرات على مواقع الإنترنت.. إلخ، وأخيراً البيانات شبه المهيكلة وتعتبر نوعاً من البيانات المهيكلة إلا أن البيانات لا تصمم في جداول أو قواعد بيانات.

ووفقاً لبعض المراجع فإن البيانات الضخمة عبارة عن مجموعة من البيانات ذات أحجام تتخطى قدرة البرامج التي يشيع استخدامها لالتقاط وإدارة ومعالجة وتخزين وتحليل تلك البيانات في غضون فترة زمنية مقبولة، والتي تقوم بها برامج الذكاء الاصطناعي، مثلاً يستغرق فك رموز الجين البشري عادة 10 سنوات حتى تتم العملية، ولكن مع تقنية البيانات الضخمة فإن هذه العملية يمكن إنجازها في أسبوع واحد، كذلك نجد في مشروع مسح سلووان الرقمي للسماء.

وهو مشروع بحثي أميركي يهدف إلى مسح فلكي للسماء باستخدام تليسكوب عملاق متصل بمستشعرات لجمع البيانات عن تكوين النجوم في مجرة درب التبانة، وعندما تم البدء بجمع البيانات الفلكية في عام 2000، فإنه قد تم جمع بيانات في أسابيعه القليلة الأولى أكثر مما تم جمعه في تاريخ علم الفلك بأكمله.

ومثال آخر، يتحدث الجميع عن الصفقة الضخمة التي نتج عنها شراء الشركة العملاقة فيسبوك للبرنامج الشهير واتسآب. ومع تقنية البيانات الضخمة وجد أنه لدى واتسآب أكثر من 450 مليون مستخدم، 70% منهم نشطيون ويتم تداول أكثر من 10 مليارات رسالة ونحو 400 مليون صورة بشكل يومي وفي 31 ديسمبر 2013، وصل عدد الرسائل عبر الواتسآب إلى 18 مليار رسالة في يوم واحد.

إن مصطلح البيانات الضخمة يحيل إلى مجموعة بيانات ضخمة جداً ومعقدة لدرجة أنه يُصبح من الصعب معالجتها باستخدام أداة واحدة فقط من أدوات إدارة قواعد البيانات أو باستخدام تطبيقات معالجة البيانات التقليدية، حيث تشمل التحديات الالتقاط، والمدة، والتخزين، والبحث، والمشاركة، والنقل، والتحليل والتصور، ما يسمح بوجود ارتباطات تكشف «الاتجاهات التجارية المحورية، وتحديد جودة البحث، وربط الاستشهادات القانونية، ومكافحة الجريمة وتحديد ظروف حركة تدفق البيانات في الوقت الحقيقي.

في 2012، قامت شركة جارتنر الرائدة في هذا المجال بتحديث تعريفها لمصطلح البيانات الضخمة الذي بدأ عام 2001 ليصبح كالتالي: «البيانات الضخمة هي أصول معلومات كبيرة الحجم، عالية السرعة، أو عالية التنوع تتطلب أشكالاً جديدة من المعالجة لتعزيز عملية صنع القرار والفهم العميق وتحسين العملية».

ومن خلال هذا التعريف يمكن القول إن تقنية البيانات الضخمة تقدم ميزة تنافسية للمؤسسات إذا أحسنت الاستفادة منها وتحليلها لأنها تقدم فهماً أعمق لعملائها ومتطلباتهم، ويساعد ذلك على اتخاذ القرارات داخل المؤسسات بصورة أكثر فعالية بناء على المعلومات المستخرجة من قواعد بيانات العملاء.

وبالتالي زيادة الكفاءة والربح وتقليل الفاقد فباستخدام أدوات تحليل البيانات الضخمة استطاعت وفقاً لتقارير مهمة بعض القطاعات والمؤسسات كانت تستخدم تقنيات تحليل البيانات الضخمة بفاعلية وكفاءة توفير أكثر من 300 مليون دولار فائضاً سنوياً من ميزانيتها السنوية أي بمعدل ثلثي الميزانية بسبب خفض تكاليف الإنفاق بنسبة 48%.

ولا تتوقف الاستفادة من البيانات الضخمة على المؤسسات والمشاريع التجارية بل تمتد إلى مجالات عديدة منها الطاقة والتعليم والصحة والمشاريع العلمية الضخمة أبرزها مشروع الجينوم البشرى (الذي يوفر دراسة كاملة للمادة الوراثية البشرية) ويحتوي على 25 ألف جين، تحتوي بدورها على 3 مليارات زوج من القواعد الكيميائية المكونة للـ DNA.

أهم ما يمكن أن نختم به هذا المقال هو القول إن تقنية البيانات الضخمة تدخل في صميم الصناعات الصاعدة التي يوفرها اقتصاد المعرفة أداة قياس وتحليل وبحث واستنتاج إعجازية إن صح التعبير، وهي أهم التقنيات التي وصلت إليها البشرية عبر تاريخها وفي سياق الحديث عن مستقبل وظائف البشر في عصر الأتمتة، الذي تطرقت إليه في مقالات سابقة، فإن وظيفة محلل بيانات ضخمة من أهم الوظائف التي سيوفرها المستقبل للبشر. وللحديث بقية.