على الرغم أن اسم جمال عبد الناصر، الذي نحتفل في هذه الأيام بالذكرى المئوية لمولده، لم يقترن باسم ثورة يوليو 1952 عند قيامها، بل ظلت هذه الثورة تقترن باسم محمد نجيب طوال ما يقرب من عامين، فإن هذه الثورة أصبحت تقترن بعد ذلك باسم عبد الناصر أكثر من أي اسم آخر.
لم نكن سعداء بالمرة عندما سمعنا في مارس 1954 عن الخلاف الذي نشب بين محمد نجيب و«الضباط الأحرار» وهو الوصف الذي كان يطلق في البداية على القائمين بحركة الجيش ضد النظام الملكي، وأذكر كيف تظاهر الطلاب وقتها واعتصموا (وكنت واحداً من المعتصمين) في قاعة الاحتفالات الكبرى بجامعة القاهرة احتجاجاً على تنحية محمد نجيب عن رئاسة الجمهورية في 1954، ولكن عادت المشاعر الطيبة نحو عبد الناصر بمجرد أن سمعنا خطابه في 26 يوليو 1956 الذي أعلن فيه تأميم قناة السويس، وهو ما جعل منه، بين يوم وليلة، زعيماً محبوباً، ليس فقط في مصر والعالم العربي، بل ومن زعماء العالم الثالث المرموقين.
كنت في السابعة عشرة من عمري عندما قامت ثورة يوليو، ومن السهل أن نتصور كيف استبد الفرح بجيلي من المصريين (بل ولا أشك أن مثله ساد في البلاد العربية الأخرى) عندما سمعنا عن حركة تنهي النظام الملكي الفاسد وترفع شعارات القضاء على الإقطاع وسيطرة رأس المال على الحكم.
وقد زاد فرحنا بإعلان اتحاد مصر وسوريا وتكوين الجمهورية العربية المتحدة في أوائل 1958 التي سرعان ما تلتها ثورة في العراق أنهت النظام الملكي فيه وبشرت بقرب تحقيق الوحدة العربية الشاملة.
تضاعف حماسنا (أو على الأقل حماس عدد كبير منا) عندما سمعنا عبد الناصر في 1961 يعلن تأميم الشركات الخاصة الكبرى، أمنية ووطنية، واعتبرنا ذلك خطوة مهمة في طريق العدالة الاجتماعية وإنهاء التمييز الطبقي.
ولكن الأمور لم تستمر على هذا النحو ففي السنة نفسها التي أعلنت فيها قرارات التأميم أصبنا بخيبة أمل شديدة بحركة انفصال سوريا عن مصر، وبدا هذا الانفصال وكأنه بداية مسلسل عكسي من تراجع حركة القومية العربية وتراجع شعبية عبد الناصر نفسه في مصر وسائر البلاد العربية.
بدأت المتاعب الاقتصادية في مصر تلعب دورها في تقليل شعبية الزعيم بعد إرساله قوات لدعم ثورة اليمن في 1962، مما شكل عبئاً ثقيلاً على الاقتصاد المصري ثم سرعان ما أعلنت الولايات المتحدة عن وقفها ما تقدمه من معونات للنظام المصري في سنة 1965، ثم جاءت الضربة العسكرية القاصمة في يونيو 1967 التي أضعفت مصر بشدة عسكرياً واقتصادياً وسياسياً، ولم تبدأ أثارها في التقلص حتى بدأ نظام السادات يعلن سياسة هي النقيض التام لسياسة عبد الناصر، سواء تعلق ذلك بالسياسة الخارجية أو الاقتصادية.
لم يعش عبد الناصر طويلاً بعد ضربة 1967 فمات في 1970 في سن الثانية والخمسين. إني أذكر قول الزعيم الصيني شوين لاي، تعليقاً على وفاة عبد الناصر، إذ وجه السؤال الآتي باستغراب للشعب المصري: «كيف تركتم الرجل يموت في هذه السن؟» وليس من المستبعد أن تكون هزيمة 1967 قد عجلت بوفاته.
استمر اسم عبد الناصر يقترن في أذهان من المصريين بالانحياز للفقراء. وما زلت أذكر جيداً كيف كانت صدمة وفاته أشد وقعاً على الطبقات الدنيا في مصر منها على سائر الطبقات. ولكن من المهم أن نلاحظ أن عبد الناصر لم يبدأ حياته اشتراكي النزعة أو يسارياً، وإنما اكتسب هذا الانحياز للفقراء، في رأي من طبيعة العصر الذي عاش فيه.
كانت الفترة الزمنية التي تمثل «الناصرية» أكثر من غيرها، هي الفترة الواقعة بين منتصف الخمسينيات ومنتصف الستينيات، وهي فترة اتسمت أكثر من أي فترة أخرى باشتداد المنافسة بين المعسكرين، الرأسمالي والاشتراكي، وكان انحياز عبد الناصر للفقراء.
من الصعب جداً في ظروف كالتي تسود العالم اليوم أن نتصور أن تتكرر ظاهرة الناصرية مهما اشتد حنين الناس إليها، فنحن الآن نعيش في عصر يتغنى بحرية رأس المال في التنقل من مكان إلى آخر سعياً إلى تحقيق أقصى ربح، ويشتد فيه النفور من أي كلام عن الاشتراكية أو التخطيط أو زيادة دور الدولة في الاقتصاد.
ليس من المستحيل تكرار هذا العصر مرة أخرى في المستقبل، فالأمور لا تبقى على حالها إلى الأبد.
وقد أثارت الأزمة المالية العالمية في 2008، آمال الكثيرين في أن تستعيد الدولة دورها المهجور في توجيه الاقتصاد وإعادة توزيع الدخل، إذ يبدو أن الاقتصاد القومي في أي بلد يمر بما يشبه الدورات من صعود دور الدولة ثم انحساره.
ولكن الأرجح أن الأمر يحتاج إلى انقضاء فترة أطول مما انقضى بالفعل منذ 2008. ربما احتاج الأمر إلى أن يزداد توزيع الدخل والثروة سوءاً عما هو الآن، قبل أن يتحرك المضارون منه، وقبل أن تشعر الدولة بضرورة تدخلها بدرجة أكبر.