في عام (1513) أهدى ميكيافيلي صاحب المقولة الشهيرة «الغاية تبرر الوسيلة» أهم كتبه «الأمير» لحكام فلورنسا، وكانت حينها تحت حكم آل ميديتشي، وذلك طمعاً وحباً في وظيفة جديدة، لكنهم لم ينسوا له أنه كان ممثلاً دبلوماسياً للحكم الجمهوري الذي أسقط دولتهم وسبق الحكم عليه بالخيانة والتآمر، وسجن بعدها، وبعد العفو عنه اختار حياة العزلة، وحاول مرات عديدة خلال عزلته أن يكون مع النخبة الحاكمة، لكنه لم يوفق كثيراً، وتوفي جراء مرضه، بعد وفاته بخمس سنوات تم نشر كتابه «الأمير» الذي لقي معارضة شديدة من الكنيسة وعليه تم إحراق كل النسخ في مدينة روما. لكن مع بزوغ عصر النهضة أصبح هذا الكتاب المثير للجدل مادة أساسية في كثير من الجامعات التي تدرس الفكر السياسي.
رغم قدرة ميكيافيلي الكبيرة على إنتاج الفكر وصياغة المحتوى، حيث ألّف ثلاثين كتاباً، وبراعته في العمل السياسي، وعلاقاته الكثيرة، إلا أنه فشل في أن يجد وظيفة.
أفنى عمره يكتب وينظر حولها، إلى أن أصبح مصطلح الميكيافيلية مرادفاً للدهاء السياسي والشدة، كل ذلك لم ينفعه وقت الشدة. هناك فرق شاسع بين النظرية والتطبيق، للواقع أحكامه وقوانينه، الناس كانوا معجبين بكتاباته ونظرياته، لكنه في النهاية كان يجلس في بيته ينتظر وظيفة!
بحوث الجامعات الغربية تقول إن تقنيات المستقبل سوف تقضي على حوالي 50% من الوظائف الحالية بحلول عام 2030، وأنا أشك أن هذه الإحصائية الطموحة سوف تنطبق على شرقنا الأوسط العظيم الذي هو متأخر كثيراً عن ركب الحضارة، وهناك أيضاً نسبة البطالة المرتفعة جداً بسبب التوترات الإقليمية، ففرص العمل ليست متوفرة أصلاً، والآن حسب هذه التقارير سوف تختفي قبل أن تتوفر!
قد يكون نيكولو ميكيافيلي الذي سرح من وظيفته رغم براعته يشابه الكثير من الأشخاص حولنا الآن الذين يظنون في أنفسهم الكفاءة، وأنهم يستحقون منصباً رفيعاً واهتماماً أكبر! ويعتبون على الآخر بأنه لم ينتبه لقدراتهم وكفاءاتهم، غير مدركين أن الكفاءة والعتب على الآخرين ليسا شرطين أساسيين أحياناً لتضعهما في سيرتك الذاتية لتحصل على وظيفة، هناك أشياء أخرى لا بد أن تضعها في الحسبان وأولها أن من عجائب هذه الحياة أنها لا تكترث بك، هي ماضية في مسيرتها بك أو بغيرك، صارمة، لا تنظر خلفها ولا تنتظر أحداً، قد تكون هذه حقيقة مرة للواقفين على أبواب الانتظار أن يقرع أحد أبوابهم ويقدم لهم وظيفة تليق بهم مفصلة على مقاسهم، لقد ولى عصر الأحلام والانتظار أيضاً.
في كتابه «الأمير» يقول ميكيافيلي «المغامرون هم ببساطة أولئك الذين يعرفون الفرق بين العقبات والفرص ولهم القدرة على تحويلها لصالحهم»، سؤالي البسيط للكاتب لماذا لم تطبق هذه المقولة الرائعة على نفسك واتخذت من العقبات الشديدة التي واجهتك جسراً للفرص الناجحة وحولتها لصالحك؟ أتمنى أنك تستطيع الإجابة وأشك في ذلك لكن دعني أجيبك وأقول لك وجهة نظري!
هناك عقبات في هذه الحياة أكبر من قدرات الإنسان ومهما بلغت قدراتك الميكيافيلية لن تستطيع اختراق نواميس الطبيعة التي لا تتحكم أنت فيها وتتحكم بك. البعض يقول إن ميكيافيلي لم يكن ميكيافيلياً حقيقياً لذلك لم ينجح في نهاية حياته.. وأقول لو أنه استلم أرباح كتابه «الأمير» الذي حقق الكثير من المبيعات منذ مئات السنين وربما حتى الآن لكان حقق كل النجاحات التي يطمح لها.