لم تعد الأجيال الجديدة من المصريين، تذكر ما حدث في مصر في فبراير 1942، أي منذ ثلاثة أرباع قرن، ولكن هذا التاريخ، ظل يتردد على أسماع جيلي، وظلت الصحف والمجلات تذكرنا به عاماً بعد عام في صبانا ومطلع شبابنا، كما ظل أعداء حزب الوفد يذكرونه كلما أرادوا الإساءة إلى سمعة زعيمه مصطفى النحاس باشا، وكأنه ارتكب في ذلك اليوم ذنباً لا يغتفر. من المفيد أن نتذكر ما حدث بالضبط في ذلك اليوم، لكي ندرك كم تغير العالم منذ ذلك الوقت.
كانت الحرب العالمية الثانية تمر بمرحلة حاسمة، وكانت بريطانيا هي وحلفاؤها تواجه خطراً محتدماً، هو احتمال هزيمتهم على يد الألمان، إذ كان القائد الألماني روميل، يزحف في اتجاه مصر على ساحل البحر المتوسط، ووصل إلى العلمين، وتمنى كثير من المصريين أن ينهزم الإنجليز، باعتبارهم المحتلين لبلادهم، وقامت التظاهرات في القاهرة، تهتف ضد الإنجليز، شعر الإنجليز بأن الحزب الوحيد القادر على إيقاف هذه المظاهرات، باعتباره أكثر الأحزاب المصرية شعبية، هو حزب الوفد، فطلبوا من الملك أن يعيد حزب الوفد إلى الحكم، ورفض الملك، الذي كان يكره النحاس والوفد، لأنه الحزب الوحيد القادر علي تحدي الملك، استناداً إلى شعبيته، فإذا بسلطة الاحتلال توجه إنذاراً للملك بضرورة الانصياع، وتعيين النحاس رئيساً للحكومة، وزحفت الدبابات الإنجليزية إلى قصر عابدين لتهديد الملك، بأن ثمن رفضه تعيين النحاس، هو تنازله عن العرش. رضخ الملك في 4 فبراير، وجاء النحاس إلى الحكم.
وظلت أحزاب الأقلية المعارضة لحزب الوفد، تعيد وتزيد في كل عام، تذكير الناس بما حدث في 4 فبراير، وتذكير النحاس والوفد بما حدث في ذلك اليوم، على اعتبار أنه لم يأتِ إلى الحكم إلا على أسنة رماح العدو المحتل. ومن ثم، ظل ذكرى 4 فبراير، يتكرر عاماً بعد عام، لتشويه سمعة حزب الوفد.
بل إن التغير الذي طرأ على العالم، يذهب إلى أبعد من هذا بكثير، كانت الوسيلة الأساسية لسيطرة دولة على أخرى واحتلالها احتلالاً عسكرياً، إذ لم تكن وسائل الاتصال في العالم تسمح بالسيطرة عن طريق آخر. منذ ذلك الوقت، زادت بشدة أهمية الاقتصاد كوسيلة من وسائل الضغط والتأثير في الحكومات، وأصبح من الممكن استخدام سلاح التجويع (بل وحتى مجرد الافتقار)، كبديل للقتل أو التهديد به.
واستخدام ابتداء من الخمسينيات من القرن الماضي، التلويح بالمعونات الاقتصادية، منحها أو حجبها، لتوجيه سياسات دول العالم الثالث في اتجاه ضد آخر، أو للتحالف مع قوة عظمى دون أخرى، ومتى بدأ استخدام هذا السلام الاقتصادي، أصبح من الممكن التحكم في سياسات الدول دون أي احتلال. بل واستبدل السلاح الوطني بالسلاح الأجنبي، أي أصبح من الممكن أن تدير دولة كبري، شؤون الدولة الصغيرة، دون إرسال أي قوات عسكرية، اعتماداً على تدبير انقلابات عسكرية داخلية.
في ضوء كل هذه التغيرات، كم يبدو الإجراء الذي اتخذه الإنجليز في مصر في فبراير 1942 بدائياً وساذجاً، لكن لا بد أن نعترف أيضاً بأن الدنيا كانت في ذلك الوقت، أكثر براءة بكثير مما هي الآن. نعم، إن الاستعمار دائماً شيء كريه، ولكن المستعمر في الماضي، كان يعترف بجبروته وأهدافه، ولا يحاول إخفاءها، كما يحاول الآن.
كانت الدول العظمي تعترف بأنها تريد «تمدين العالم»، وأنها تحمل مسؤولية النهوض بالدول «المتخلفة أو الأقل تمدناً». الآن، تدعي الدول الكبرى أنها تعامل الدول الأخرى معاملة الند للند، وكأنها دولة مساوية لها، دون تفرقة بين دول فقيرة ودول غنية، ولكنها بالطبع لا تفعل ذلك في الحقيقة.
للنظر مثلاً إلى التغيير الذي لحق بنظام التعليم في الدول الفقيرة، كيف كان يجري منذ قرن من الزمن، في ظل اعتراف الدول الاستعمارية بتفوقها الحضاري، ومن ثم، بحقها في تغيير نظم التعليم في الدول الخاضعة لها، استناداً إلى هذا التفوق. الآن، يقوم موظفو الدول الصغيرة بالمهمة نفسها، التي كان يقوم بها حكامنا الأجانب، أي بتقليد نظم التعليم في الدول الأقوى، والعبث بتراثنا في ميدان التعليم، دون أن شعور بالذنب، بل يقترن ذلك دائماً بدعوى تحقيق النهضة والتقدم.
العالم يزداد دهاء مع مرور الوقت، ما يجعل المرء يحن أحياناً، إلى أيام كان الظلم فيها يتحقق بقوة السلاح، وليس متخفياً في رداء العطف والإشفاق.