يمكن القول: إن مبادرة الرئيس الفلسطيني محمود عباس أبو مازن أمام مجلس الأمن الدولي، وما طرحه من مقترحات في الأيام الماضية، لم تخرج عن الثوابت العربية والفلسطينية المعلنة منذ سنوات بعيدة كونها تدور في فلك المرجعيات، التي تحفظ للشعب الفلسطيني حقوقه المشروعة.

ولكن تبقى المشكلة الأساسية في غياب الآليات الكفيلة بتنفيذ هذه الأفكار «الرائعة»، فضلاً عن غياب الإرادة السياسية لدى الأطراف الدولية القادرة على وضع هذه الأفكار أو المبادرة موضع التنفيذ، وفي المقدمة منها الولايات المتحدة، التي يبدو أنها على استعداد تام لتبني المشروع الإسرائيلي بالكامل، فالمشكلة لم تكن يوماً في فكرة إقامة الدولة الفلسطينية في حد ذاتها أو المرجعيات الحاكمة لذلك التوجه، ولكن حول كيفية قيامها وتحويلها إلى حقيقة على أرض الواقع، خاصة في ضوء الرفض الإسرائيلي المزمن، والذي يتبدى مجدداً في تجاوزات المندوب الصهيوني لدى مجلس الأمن تعقيباً على مبادرة أبومازن بقوله «إن الرئيس الفلسطيني هو أكبر عقبة في طريق السلام، بل هو المشكلة ذاتها».

مؤشرات عدة تثبت أن هناك تحركات واتصالات عربية نجحت في استغلال الموقف الدولي الداعم للفلسطينيين والرافض لجملة القرارات السلبية تجاه القضية الفلسطينية، وعلى رأسها القرار الأميركي اعتبار القدس عاصمة للكيان الصهيوني ونقل السفارة الأميركية إليها، فقد أثمرت بالفعل في عزل القوة العظمى الأولى في العالم وتعرضها لانتقادات حادة غير مسبوقة من كل أركان الكرة الأرضية، وربما يمكن اختزال المشهد الأخير في تفسيره وتحليله وتحديد آلياته في تلك الكلمات البسيطة «الصمود في مواجهة قرارات التهويد»، فما يحدث على أرضية الميدان يعكس حجم الخطر الجسيم الذي تتعرض مدينة القدس ومسجدها الأقصى، فعملية تهويد المدينة ومحاولات سحق هويتها الفلسطينية- العربية- الإسلامية هي بالفعل تهديد كبير للهوية المقدسية دخلت في مراحل غير مسبوقة من جانب الاحتلال الصهيوني.

وأيضاً باتت احتمالات هدم المسجد الأقصى وإقامة الهيكل المزعوم ماثلة أمام أعين الجميع، بعدما حولتها حكومة اليمين المتطرف والجماعات اليهودية المرتبطة بها إلى خطوات عملية لم تعد موضع شك من القاصي والداني، فأحلام بناء الهيكل على أنقاض المسجد الأقصى المبارك واعتبار القدس عاصمة أبدية لإسرائيل هي أشياء عقائدية من مكونات الدولة والمشروع الصهيوني.

وإذا كان الصراع على القدس هو صراع على المستقبل بالنسبة للفلسطينيين، ما يفسر المسعى الإسرائيلي للهيمنة على المسجد الأقصى والتمدد الاستيطاني في مدينة القدس وفق المقولات التوراتية، والذي أخذ في الآونة الأخيرة نمطاً عدوانياً غير مسبوق، تجلى في القيام باقتحامات يومية سواء من قبل مجموعات المستوطنين، أو قوات جيش الاحتلال أو بكليهما معاً، فان خطورة ما يجرى في القدس على أرض الواقع وقرار واشنطن المخزي ومحاولات تقنين الاستيطان، لا تقف عند حد الاقتحامات التي باتت تتكرر بشكل يومي للأقصى ومظاهر التهويد الواضحة، ولكنها تمتد كذلك إلى كل المقدسات الإسلامية والمسيحية، ومصادرة أراضي الأوقاف الإسلامية والكنائس المسيحية، إضافة إلى تدفق أموال طائلة تقدر بمليارات الدولارات من قبل حكومات وأفراد وجمعيات سواء في الولايات المتحدة ودول غربية أخرى لدعم مشروع حكومة نتانياهو لتهويد القدس بشكل شامل.

وتعكس تلك التطورات التاريخية الخطيرة وما صاحبها من تطورات أخرى أشد خطورة ومواقف قادة الدولة الصهيونية والأحداث الجارية الآن حجم وحقيقة المؤامرة المبكرة، التي تتعرض لها القدس واستهداف الأقصى، ولا شك في أن المواقف الأميركية المتخاذلة ستزيد من وتيرة هذه التحركات الخطيرة.

وغني عن القول إن التصعيد الأخير ضد الأقصى الشريف ليس عشوائياً أو وليد اللحظة، ولكنه عمل مخطط يهدف إلى إجهاض الطموحات الفلسطينية والخطوات الناجحة التي ظهرت مؤشراتها في الآفاق الدولية، وباتت الهمجية الإسرائيلية ضد الفلسطينيين البديل الجاهز في كل مرة تجد فيها حكومة الاحتلال نفسها محاصرة فلسطينياً ودولياً، وما يحدث من قوات الاحتلال وجحافل المستوطنين حالياً في القدس والمسجد الأقصى الشريف هو سيناريو معاد ومكرر كثيراً، ما افتعلته سلطات الاحتلال الإسرائيلية للهروب من استحقاقات عاجلة أو لضرب عملية السلام في مقتل من خلال تلك الحملة المنسقة لتهويد القدس وتكريس أمر واقع تسعى إليه إسرائيل لحرمان الفلسطينيين من حقوقهم المشروعة.

ولكن بالرغم من كل ذلك فإن الرهان كان ولا يزال على الصمود الفلسطيني الذي اتضح في الرفض الجماعي للإجراءات الأمنية والقمعية الصهيونية الأخيرة حول وداخل المسجد الأقصى ولقرارات ترامب الأخيرة.