عند البعض، الحقيقة ليست مهمة، الأهم ما يمكن تصويره للناس، وهذا ما تحاول الدوحة فعله، حقائق من نسج الخيال، كما أنتجت فيلماً وثائقياً زور حكاية انقلاب حمد على أبيه الأمير، وزعم تدبير مؤامرة ضده لإعادة أبيه إلى الحكم.
بسبب فضيحة الانقلاب، ولأنها تنقص من شرعية الحكم الحالي، لم أتوقع أبداً أن تفتح حكومة قطر سيرة تاريخها الحديث، لأن سيرتها سيئة جداً، إلى درجة يصعب أن تغسلها بأفلام وثائقية مركبة، وشهادات زور، فتاريخها قريب، ومعظم الشهود أحياء اليوم. وسمعة الحكومة سيئة، حتى بدون سيرة الانقلاب، تحالفها مع إيران وحماس وحزب الله والقاعدة وجبهة النصرة، وابن لادن والجولاني.
فتحت الدوحة سيرة الشيخ حمد، الذي لا يزال يحكم قطر من خلف الستار إلى اليوم، وقد بدأت المأساة، عندما استولى الابن على حكم أبيه، وهز المجتمع الخليجي كله، لا القطري فقط، في عام 1995. رواية حمد بن خليفة الجديدة للتاريخ، تقول إن ثلاث دول اجتمعت وتآمرت ضده، وحاولت تنفيذ عملية انقلابية في العام التالي.
إنما في ذلك عام، 1996، ولسبعة أعوام متتالية، لم يكن يحرس قطر سوى قوة دفاع صغيرة، إلى جانب شرطتها. قطر city state، دولة من مدينة واحدة، لم يتجاوز سكانها، آنذاك، نصف مليون، ربعهم قطريون. ولم يكن عسيراً على دولة كبيرة، مثل السعودية، تجاورها براً وبحراً، أن تتدخل لو شاءت، لكنها لم تفعل، ولا فعلت بقية دول الخليج. معاهدة تعاون تحكم مجلس يضم الدول الست المترابطة جغرافياً وقبلياً.
لو شاءت هذه الدول تغيير النظام، لاستطاعت بيسر، حتى قانونياً، فالشرعية كانت للأب خليفة، الذي أقصاه ابنه من الحكم غدراً. مع هذا، لم تتدخل الدول الخليجية، سوى بمحاولة احتواء النزاع بين الأب وابنه، وإنهاء الخلاف بينهما ودياً، وعندما استضافت أبوظبي، الأب، طلبت منه احترام قوانينها، بعدم ممارسة النشاط السياسي، وكذلك فعلت الرياض.
وقد التقيت الشيخ خليفة، الأب الغاضب المجروح، في جناح فندقه في أبوظبي آنذاك، وكنت أعمل على فيلم عن غزو الكويت، وللأمير المخلوع دور في التحرير. وكانت رغبة أبوظبي منا ألا يتحدث الأب في المقابلة عن الخلاف والانقلاب. إلى هذه الدرجة، من أدب العلاقة والحرص عليها.
ولا يظن أحد أن إسقاط نظام حمد في عام 1996، كان مهمة صعبة، أبداً، لو شاءت هذه الدول. كان بإمكانها اعتبار حكومة حمد انقلابية، والتمسك بخليفة كحاكم شرعي، ودخول الدوحة معه، والاستيلاء عليها في نهار واحد. ومن المؤكد أن سكان العاصمة ما كانوا سيقاومون عودة أميرهم المخلوع، الذي لم يُعرف عنه العنف ولا سوء المعاملة لمواطنيه، بعكس الحاكم الجديد، الذي بادر إلى طرد خمسة آلاف من المواطنين من قبيلة الغفران، من بني مرة، ونزع منهم جنسياتهم، فقط لأن بعضهم لم يساندوا انقلابه!،
السعودية والإمارات والبحرين، ارتكبت خطأ تاريخياً، عندما أحسنت الظن بحمد، واستقبلت أباه الأمير المخلوع والخمسة آلاف قطري المطرودين، واكتفت بمحاولات إصلاح البين، كان عليها أن تعيد خليفة على دباباتها. وربما هذا ما دفع الأب الغاضب إلى أن يجرب حظه، وحاول تدبير انقلاب هزيل، مع رجاله الموجودين داخل العاصمة في الدوحة. كانت عملية بدائية وفشلت، وقد عرف بأمرها ابنه حمد مبكراً، من رجاله المندسين عند أبيه المخلوع.
لو كانت الرياض تريد خلع حمد، يستحيل أن تعجز حينها، بوجود الحاكم الشرعي معها، لكنها لم تفعل. لم تكن هناك قاعدة أميركية تحمي حمد، ولا قوات قطرية كبيرة، والمسافة كلها بين حدود السعودية والدوحة، لا تتجاوز 94 كيلومتراً فقط.
الانقلابي، حمد بن خليفة، نفسه، لم يتجرأ على تزوير الحقيقة آنذاك، ولم يتهم جيرانه، كما يفعل الآن، لأنه يعلم حينها أن بإمكان القوات السعودية أن ترفع أعلام قطر، وتعيد الأب خليفة إلى قصره في ساعات، وستؤيد عودة الشرعية معظم حكومات العالم والشعب القطري. لم تفعل، لأن دول الخليج عادة تتحاشى التدخل في خلافات الأسر المالكة، وتترك حسمها لها.
أما لماذا قرر حمد، الذي يحكم من وراء ستارة تميم، أن ينتج فيلماً يزعم أنه كان هدفاً لمؤامرات سعودية إماراتية بحرينية، فالسبب، لأنه لا يجد إجابة للناس يبرر بها تورطه مرات في مشاكل ضد دول المنطقة، سوى باختراع القصص. وياليتهم تآمروا وتدخلوا وخلعوه، وأعادوا خليفة إلى الحكم لكانوا غيروا تاريخ المنطقة العربية إلى الأفضل، فمنذ انقلاب حمد على والده والمنطقة تعاني من التطرف والفوضى بسببه.