قبل ثلاثمائة سنة نشر الفيلسوف جان جاك روسو نظرياته وأفكاره في التربية من خلال كتابه (إميل والتربية) ومن أشهر مقولاته:
«تعلموا كيف تتعرفون إلى أولادكم لأنكم يقينا تجهلونهم كل الجهل» ودعا روسو إلى ترك الطفل ينمو طبيعيا وترك الطفولة تنمو في الأطفال وعدم عرقلة عمل الطبيعة في مسيرة الطفل، ويقصد هنا أن الطبيعة تؤدي دوراً مهماً في التربية حيث إن الأطفال يولدون على فطرة الخير.
والتدخلات غير الاحترافية من المؤسسات والأفراد تحرم الأطفال من العيش والمتعة في فترة الطفولة التي هي قصيرة نسبياً، لذلك يتوجب علينا احترام توجّهات الطفل والعمل على تطويرها. هذه الأفكار التربوية التي كتبها روسو خضعت لنقاشات طويلة ونقد بين رواد وعلماء التربية والتعليم، ورغم ذلك يتفق كثير من القادة والفلاسفة ومنهم نابليون أن أفكاره كانت الوقود الذي أشعل الثورة الفرنسية.
تذكرت هذه النظريات ونحن نحتفل بيوم الطفل الإماراتي وسعدت جدا بإقرار قانون (وديمة) لحقوق الأطفال، وعندما بدأت بحثي عن الموضوع رجعت لبدايات التعليم في الدولة وعبرت جملة (مع حمد قلم) على مخيلتي، هذه الجملة تحديدًا تمثل البداية لجيلنا.
وكانت مخرجات التعليم في ذلك الوقت تناسب طموح الدولة الفتية التي تقطع خطواتها بسرعة تفوق عمرها وأفرزت جيلًا طموحاً شق طريقه في مجتمعات المعرفة بصعوبة، لكنه استطاع أن يصل لخط النهاية رغم التحديات الكبيرة التي واجهها التعليم في بداياته. وقررت أن أذهب لمدرسة أبنائي أبحث عن أصدقاء الطفولة حمد وقلمه.
وعندما فتحت بشغف كتاب اللغة العربية وجدت فاتورة تكاليف الدراسة لأبنائي التي تفوق بلغة الأرقام تكاليف أفضل الجامعات الأكاديمية في الغرب والشرق أيضًا وقلت لنفسي يالها من تجارة مربحة.
ومع نمو القطاع الخاص بشكل كبير أصبح التعليم الخاص جزءاً من المنظومة التعليمية ونافس القطاع الحكومي في الخيارات وأيضًا في «الجودة». ورغم تحفظي على هذه الكلمة لكن الواضح أن بعض المدارس في القطاع الخاص قطعت شوطًا مهماً في التعليم الأساسي.
وسبقت القطاع الحكومي بما تقدمه من خيارات وأسس في العملية التعليمية جذبت لها الكثير من الأسر الإماراتية والعربية والأجنبية المقيمة على هذه الأرض الطيبة وجمعتهم في بوتقة علمية حديثة واحدة، مما وضع التعليم الحكومي أمام تحديات كثيرة ومهمة، الذي وبالرغم من مجانية التعليم قد لا يستطيع أن يقطع نفس الأشواط التي قطعها التعليم الخاص بنفس السرعة إذا نظرنا إلى الأمر من منظور المنافسة التي يروجها البعض.
لأن معايير التعليم في القطاعين الحكومي والخاص تختلف كثيرًا والمقارنات الظالمة تعمق الهوة، فالأدوات والتجارب مختلفة جدًا والذي يروج لنظرية التنافس لا بد أن يعي الاختلافات الأساسية بين المنظومتين في القطاعين.
يتحدث رواد التربية وقادة التعليم عن مخرجات التعليم ومدى مناسبتها للمستقبل وسوق العمل، ونحن نعيش عصر الابتكار والإبداع ونطمح ونتوقع من أطفالنا أن يواكبوا الثورة المعرفية التي تغزو العالم، ويتم الاستثمار في التعليم من أعلى المستويات. وفي غمرة المتطلبات وزحمة الواجبات وسرعة الاكتشافات ننسى أن نعيش! وننسى أن ندع الطفل يبني تجاربه الخاصة ويكتسب المعرفة على طريقته.
تحدث جان جاك روسو قبل ثلاثة قرون عن «قماط الأطفال» وكيف في بداية حياته يربط بالقماط ويمنع من الحركة وأشار إلى أنها من وجهة نظره قيود وأغلال تفرضها عادات ومنظومات على الإنسان، وفي نهاية حياته يلف بالكفن، فالربط والتقييد صفة ملازمة للبشر!
قد يكون المفكر جان جاك روسو تأثر بقصة الحي بن يقظان التي سردها المفكر والفيلسوف العربي ابن طفيل وأوضح فيها قدرة الإنسان على الاكتشاف والوصول إلى الحقيقة بالإدراك العقلي والحسي. رغم كتاباته العميقة في التربية والفلسفة لم يترك روسو بصمات على أبنائه، بل إن المشاكل تبعته إلى آخر حياته وهذه هي معضلة المثقف!