حماية المدنيين في أوقات الحروب تمثل هدفاً تاريخياً طالما سعت المنظمات والمؤسسات الدولية إلى تحقيقه منذ عقود، خاصة مع تطور القوانين الإنسانية والعمل الجماعي وصياغة الاتفاقات والمعاهدات الدولية لتحقيق هذا الهدف وتجنيب الأبرياء مخاطر الحروب وويلاتها.
إلا أن كل الجهود الدولية في هذا الصدد سواء المرتبطة بالقانون الإنساني وجرائم الحرب، أو إقامة مناطق وممرات آمنة للمدنيين، لم تحقق الهدف المنشود منها. وكثيراً ما كان المدنيون الأبرياء أبرز ضحايا تلك الحروب في صورة قتلى وجرحى ومشوّهين ومشرّدين بالملايين، الأمر الذي بات يحتّم البحث عن مقاربات جديدة وغير تقليدية لحماية المدنيين، وخاصة الأطفال منهم الذين تحوّل نحرهم إلى عار مقيم على صدور البشرية جمعاء.
لقد بات الخطر الجسيم الذي يلاحق الأطفال مزدوجاً؛ خطر الحروب والمعارك وقذائف الطائرات والدبابات والصواريخ والمدافع، ومن ثم الموت أو التشرد، وخطر الوقوع في براثن الجماعات الإرهابية والمتطرفة التي تستخدمهم وقوداً متأججاً ومتجدداً في أغراضهم الدنيئة، كما أصبحوا أهدافاً أمامية في الصراعات حول العالم، فيتم استخدامهم كدروع بشرية ويتعرضون للقتل والتشويه والتجنيد لخوض الحروب، في حين أن الاغتصاب والزواج القسري والاختطاف والاستعباد أصبحت أساليب اعتيادية في مناطق الصراعات الإقليمية كسوريا والعراق وأفغانستان ونيجيريا وميانمار.
وإذا كانت الأحداث الجارية في الغوطة الشرقية هذه الأيام تكشف بجلاء عن الأخطار الجسيمة التي يتعرض لها المدنيون، والأطفال منهم على وجه الخصوص، فإن هناك أرقاماً مخيفة عن تجنيد الأطفال في مناطق النزاعات المسلحة، فالأطراف المتحاربة فيها لا تتردد في استعمال كل الوسائل للزج بأجيال المستقبل إلى جبهات القتال، وتكشف تقارير دولية عن أن الآلاف من الأطفال لا يزالون تحت رحمة جماعات مسلحة نشطة في المنطقة، آلاف الأطفال خطفوا في العراق وأجبروا فيما بعد عنوة على المشاركة في القتال أو تعرضوا للاعتداء الجنسي، على حد تأكيد تلك التقارير.
ولا تقتصر عملية تجنيد الأطفال في مناطق النزاعات على التنظيمات المسلحة فحسب، بل هناك العديد من الأطراف التي تستغل الأطفال كوقود للحروب الدائرة في المنطقة، وبغض النظر عن الأرقام المحددة التي تشير إلى أن «داعش» هو التنظيم الأكثر استغلالاً للأطفال في حربه، إلا أن تجنيد الأطفال بات ظاهرة لدى كل الفصائل المقاتلة في سوريا على سبيل المثال، واعتماداً على أساليب مختلفة تتركز بالأساس على الوازع الديني، فقد جنّد تنظيم «داعش» أكثر من أربعة آلاف طفل في سوريا منذ 2014، وقد قُتل عدد هائل منهم في مختلف المعارك، كما استغل التنظيم الأطفال في تنفيذ العمليات الانتحارية بمناطق عدة من سوريا والعراق.
وفي السياق ذاته، بث تنظيم داعش مقاطع فيديو تُظهر أطفالاً ينفذون عمليات إعدام في سوريا، وهي الصور التي يريد من خلالها التنظيم الإرهابي القول إن جيلاً جديداً يتم إعداده وتنشئته ليقوم بالمهمة في حال تم القضاء على التنظيم عسكرياً، وبالتالي فإن جيلاً جديداً تتم تنشئته على الإيديولوجية التي يقوم عليها هذا التنظيم، ليصبح التحدي الأكبر بعدما تم طرد التنظيم من المناطق التي سيطر عليها هذا الجيل الذي تشبع بالإيديولوجية القتالية التي يتبناها «داعش».
ويتفق المراقبون على أن معظم التنظيمات المسلحة في مناطق حروب الشرق الأوسط تتبع أسلوب الترهيب والترغيب لتجنيد الأطفال في صفوفها، فالكل يلعب على الوتر الديني أو الطائفي أو القومي أو العرقي لاستمالة الأطفال إلى صفوفه، هذا إن لم يكن بالإكراه وكذلك بهدايا وإغراءات ورواتب تصل إلى 400 دولار شهرياً.
لقد أوجزت منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسف) هذه المأساة بتأكيدها أن الأطفال الذين يعيشون في مناطق النزاعات بالعالم تعرضوا لهجمات على نطاق صادم العام الماضي 2017، مشيرة إلى أن المهاجمين انتهكوا بشكل فظ القوانين الدولية التي تهدف لحماية الفئات الأكثر عرضة للخطر، حيث يتم استهداف الأطفال ويتم تعريضهم للهجمات وأعمال العنف في منازلهم ومدارسهم وملاعبهم.
هذه الحقائق المخزية دفعت المنظمة الدولية إلى التأكيد أنه يجب أن لا يصبح العالم فاقد الحس أمام هذه الهجمات، و«لا يمكن أن تصبح مثل هذه الوحشية أمراً اعتيادياً»، بعدما أصبح الملايين من الأطفال ضحايا غير مباشرين لمثل هذه الصراعات، ومن ثم فتلك الظاهرة الخطرة، التي تستصرخ ضمير العالم على مستويات عدة، تستوجب بالفعل مقاربات مختلفة وبرامج عمل دولية غير تقليدية لإنقاذ أجيال المستقبل، بعدما عجزت القوانين الدولية والمعاهدات الإنسانية عن توفير الحماية الكافية لهم وإنقاذهم من الإرهاب والحرمان.
* كاتب ومحلل سياسي