قد يحتمل الجسد الآلام حتى يعافى سواء بعلاج الداء الذي سبب له تلك الآلام أو بالتخلص من سبب العلة عبر مختلف السبل، وكما يقال «آخر الدواء الكي»، وهي مرحلة لم يعد فيه ما تعارف عليه الناس من أدوية ذا فاعلية، ومع الشفاء تنتهي آلام الجسد، غير أن آلام النفس أشد قسوة، وجراحها أكثر غوراً، وآثارها أدوم أجلاً، وأوجاعها أقوى أثراً، وأعراضها أكثر انتشاراً، يبدو معها الفرد أمام الغير صلب العود من الظاهر.
لكن داخل النفس انطوى على حزنه، هو بين الناس يبدو معهم، لكن بالجسد فقط، وحواره مع الذات لا ينقطع، يصرخ ولكن لا يسمعه أحد في دنيا الناس، وما أوجع صرخات الألم حين تكون من ذاتك وترد إليها، يظل الفرد في تلك الحالة وحيداً شريداً هائماً ولو كان بين الحشود، وتظل غصة الحلق تدر سمومها الحزينة تملأ الجسد ليصيبه بأوجاع يعجز الطبيب عن تشخيصها وتطبيبها، كيف لا وصاحبها هو المكلوم بها القابض على جمرها.
أقول هذا بعد الاطلاع على ما نشرته "البيان" على صفحاتها حول تلك الأم الخليجية المسنة التي تجاوزت الثمانين من عمرها، سنوات قضتها في تربية ستة من الأبناء، رعتهم بدمها وحنانها، ومع كل يوم يمر عليهم يكبروا ويشتد عودهم كان ثمنه رصيداً مسحوباً من خزائن عافيتها، وعندما انتصبت ظهورهم انحنى ظهرها، ولما انفتلت سواعدهم وهنت سواعدها، ولما علا صوتهم وبانت رجولتهم خفت صوتها وكشف عن ضعفها، ولم تكن على ذلك حزينة.
فهم العزوة حين يتركها الناس، وهم السند حين يهن العظم، هذا الذي كانت تراه، كما تراه كل أم بذلت نفسها وروحها رخيصة في سبيل حياة أبنائها، وحين أثقل عليها المرض أودعوها المستشفى لسبع سنوات بسبب التهاب مزمن أدى إلى بتر رجليها وأفقدها القدرة على الحركة، وهو ما جعل أبناءها يتخذون قراراً موقعاً بموافقة الجميع على إيداعها هناك، علها تشفى، وتتحسن حالتها الصحية، وتعود إلى البيت.
لكنها إلى الآن لم تعد، ليس بسبب المرض وحده، ولكن لأن أبناءها نسوها هناك، وتركوها تواجه مصيرها من دون أن يقفوا إلى جانبها أو يساندوها في محنتها، أو حتى يطمئنوا على صحتها ولو بالهاتف، غير أن الأم المكلومة لم تنسهم يوماً رغم آلام الجسد والنفس، وكانت تلتمس دائماً لهم الأعذار بقلب لم يعرف غير الحنان، ونفس لم تعرف غير العطاء.
وعند اشتداد المرض كانت تلهج بأسمائهم، وتسأل عن أخبار أولادهم، حسب الممرضات العاملات على رعايتها، الأمر الذي دفع بإحداهن إلى الاتصال بأبنائها لعل الصدأ الذي غلف قلوبهم قد انجلى، والضمير الذي مات أو قارب مازال به بعض من حياة، لكن «لقد أسمعت إذا ناديت حياً ولكن لا حياة لمن تنادي»، ولكن فوجئت الممرضة بالابن الأصغر، بعد مرور أيام طوال، يسأل عن أمه.
الأمر، الذي أسعدها وأسعد من حولها، غير أن الحقيقة أن الابن الذي مات ضميره وطمس على قلبه لم يأت ليكفر عن سنوات سبع من الجحود والعقوق، وأن نفسه التي علاها الخبث لم يكن لها أن تنتفض فجأة، ظل الابن العاق يزور والدته ليكمل مخططه الشيطاني، وبذات اليد التي احتضنته صغيراً، لتحميه من برد الليل، أو أمسكت به قبل أن يتعثر حين كان يخطوا أولى خطواته، ذات اليد التي مسحت دمعته وربتت على كتفه، التي أطعمته حين كان عاجزاً عن إطعام ذاته، ذات اليد التي أتعبها تعلقه بها فلم تكل وسهرت به لتخفف آلام المرض فلم تمل، وهي التي ما زالت ترتفع لتدعو له بالخير، لكنه نسي كل ذلك، وقام حين كان يتظاهر بتقبيلها بوضع بصمتها على تنازل ما بقي لها من أملاك دون أن تدرك أو تتخيل، هكذا أوضحت تحقيقات النيابة وشهد الشهود.
أقول إن هذا الجرم، في بشاعته الأخلاقية، يفوق كل العقوبات التي ينص عليها القانون، أنه يمثل حالة من العقوق والجحود لا حدود لها، الأمر الذي يستوجب التوقف عنده طويلاً من كل الهيئات الاجتماعية والصحية والنفسية والمجتمعية، باعتبار أن هذا النموذج غير الإنساني لا يمثل خطراً على الحياة الاجتماعية لأسرته وعائلته فحسب لكنه يمثل خطراً على الأوطان، فمن يعق والديه من الصعب أن ننتظر منه غير ذلك لمجتمعه ووطنه، وهل الوطن يختلف في معناه ومبناه عن الأم، ومن عق أمه لن يجد حرجاً في عقوق وطنه.