تكررت الإشارة خلال الآونة الأخيرة، في الصحف والمجلات، المحلية والعالمية، إلى دلائل مختلفة على تدهور مركز الولايات المتحدة الأميركية في العالم: مركزها الاقتصادي والسياسي والمعنوي.
الرئيس الأميركي لم تعد له الهيبة القديمة، التي تتمتع بها في يوم ما رؤساء مثل روزفلت في الثلاثينيات، أو ترومان في الأربعينيات، أو أيزنهاور في الخمسينيات، أو كينيدى في أوائل الستينيات. بل كثرت أخيراً الإشارات إلى الرئيس الحالي دونالد ترامب، مقترنة بسخرية لم يتعرض لها أي رئيس أميركي سابق. والاستثمارات الأميركية في الخارج.
وكذلك المعونات الأميركية التي تعطى لدعم سياسات تحظى برضا الولايات المتحدة، لم ترد في السنوات العشر الأخيرة، بمعدلات زيادتها في السنوات العشر السابقة عليها. نسي الناس ذلك الوصف القديم للدولار، الذي شاع في أعقاب الحرب العالمية الثانية، بأنه «عملة صعبة»، التي اجتهد الناس في الحصول عليها للاستيراد من الولايات المتحدة.
كما انخفض معدل نمو الناتج القومي الأميركي إلى أقل من نصف معدل النمو في الصين. لم يعد نمط الحياة الأميركي، يمثل حلماً للشباب في مختلف بلاد العالم.
ولم نعد نسمع عن «الحلم الأميركي»، الذي كان يجذب الطامعين في حياة أكثر رغداً، إلى البحث عن عمل في تلك القارة الساحرة. هذا الصعود ثم الهبوط في صورة أميركا في العالم، ظاهرة جديرة بالتأمل، إذ قد تؤدي محاولة تفسيرها إلى فهم تطورات مهمة حدثت في العالم خلال الأعوام الخمسين الماضية.
هل كان ذلك الحادث المأساوي الذي وقع للرئيس الأميركي جون كينيدي (مصرعه في نوفمبر 1963)، هو بداية التدهور في مركز أميركا في العالم؟، لقد أعقب هذا الحادث بشهور قليلة، سقوط الرئيس السوفييتي خروتشوف، وبدأ في كلا الدولتين، حكم شخصيات لا تتسم بصفات الكاريزما التي تمتع بها كل من كينيدى وخروتشوف.
فهل كان هذا مجرد صدفة، أم كان تطوراً حتمياً، جنب العالم خطر قيام حرب نووية. كان العالم الثالث قد بدأ ينمو بسرعة منذ منتصف الخمسينيات، ويزداد استقلالاً في ظل سياسة الحياد الإيجابي وعدم الانحياز، فكان هذا النمو في قوة ثالثة، عاملاً مهماً في أفول النجم الأميركي والسوفييتي أيضاً.
ولكن بدأ في الوقت نفسه، ما عرف باسم «عصر الوفاق»، الذي دشن عصراً جديداً من التعاون بين المعسكرين، الأميركي والسوفييتي، انتهى بما أطلق عليه فوكوياما «نهاية التاريخ»، أي انتصار النظام الرأسمالي انتصاراً نهائياً على خصمه الاشتراكي، ثم سرعان ما تبين أن المنتصر الحقيقي منذ السبعينيات لم يكن دولة على أخرى، بل انتصار الشركات العملاقة المسماة بمتعددة الجنسيات على الجميع، وتدهور مركز الدولة (أياً كان اسمها)، في مواجهة هذه الشركات.
ربما كان هذا هو التفسير الحقيقي لما يوصف بتدهور المركز الأميركي، لقد اعتدنا لفترة طويلة، أن نتكلم عن الأحداث التي تجري في العالم باستخدام مصطلحات «قومية»، وكأن الأطراف الفاعلة على المسرح العالمي، هي الدول، والصراع هو بين مصالح الدول المختلفة.
ويبدو أنه من الصعب أن نتحول من حديث عن صراع بين دول، إلى الحديث عن صراع بين شركات. إذا كان الأمر فعلاً كذلك، فربما كان ما نسميه بتدهور المركز الأميركي، ليس إلا اشتداد حدة المنافسة بين الشركات الأميركية من ناحية.
وشركات تنتمي إلى جنسيات أخرى ألمانية أو صينية أو هندية.. إلخ. يعيد هذا الحديث إلى الذاكرة، ما حدث منذ نحو ستين عام لدولة أخرى، كانت حينئذ ملء السمع والبصر، وهي بريطانيا العظمى. في سنة 1956، قام رئيس دولة صغيرة، هي مصر، بتأميم شركة كانت بريطانيا وفرنسا تملكان غالبية أسهمها، وهي شركة قناة السويس.
ولم يصدق رئيس الوزراء البريطاني وقتها (أنتوني إيدن)، أن تتجرأ دولة كانت حتى وقت قريب من مستعمراتها، فتضع يدها على مصدر مهم من مصادر قوتها الاقتصادية والسياسة، وحاول أن يضع حداً لهذا العمل بالهجوم العسكري (بالاشتراك مع فرنسا وإسرائيل).
ولكن سرعان ما تبين أن العالم بعد 56، لم يعد كما كان قبله، وأن الولايات المتحدة قد ورثت، أو هي في سبيل وراثة الدولتين الاستعماريتين القديمتين، وأنها مستعدة للوقوف إلى جانب مصر في قرار التأميم. ومن هنا، دخل العالم فصلاً جديداً من التاريخ، بصعود النجم الأميركي، وأفول نجمي بريطانيا وفرنسا.
بعد مرور 62 عاماً على تأميم قناة السويس، يبدو وكأن النجم الأميركي، هو الآن المرشح للأفول. ولكن التاريخ لا يعيد نفسه بالضبط. فالذي يرث العالم القديم الآن، ليس دولة بعينها، والأفول ليس مصير دولة دون غيرها، فالذي يرث العالم الآن، شركات قد لا تعرف لها جنسية واضحة، والمرشح للأفول، هذه الدولة الفوقية التي تمثل مصالح لها حدود جغرافية واضحة.