سيظل الحديث عن الأخلاقيات مستمراً كما كان مطروحاً منذ عقود، وإذا كثر الحديث عنه فاعلم تماماً أن هناك إشكالية تعاني منها الممارسات لمهنة ما.
هذه واحدة، الأمر الثاني أن هذه الإشكاليات الخلاص منها والتغلب عليها لن يكون كافياً وكاملاً دون إعمال الضمير المهني للممارس. وعندما نقول الضمير المهني يعني الحديث عن الجانب الأخلاقي، والالتزام الذاتي، ذلك أن الأخلاقيات مهما كثرت نصوصها وتعددت بنودها هي في الأخير التزام فردي ينم عن حالة من الوعي القائم على المعرفة بالممارسة المهنية الصحيحة.
وهذا لا يخص مهنة الإعلام وحدها ولكن كافة المهن، باعتبار أن الإطار الأخلاقي هو السياج المحدد والحامي لنقاء بيئة الممارسة وفاعليتها.
ولا شك أن الممارسة الأخلاقية تحافظ على مساحة كبيرة من الممارسات الإعلامية القائمة على المسؤولية الذاتية، ذلك أن الميثاق الأخلاقي يمثل العقد المبرم بين الجمهور والإعلامي. وفي حالة عدم الالتزام ببنود الميثاق تكون القطيعة بين الممارسين والجمهور، وهو المعني بكافة الجهود المبذولة، وهو الهدف النهائي من الرسالة الإعلامية.
الأمر الذي يجعل من العمل الإعلامي كمن يحرث في الماء ويصبح مضيعة للوقت والجهد والمال، وبخاصة أنه لا يمكن للعمل الإعلامي أن ينجح دون وضع الجمهور، باحتياجاته ورغباته وثقافته وقيمه، أمام ضمير ونظر الإعلامي، وإلا فإن البديل أن ما لم يتم تنفيذه عبر المواثيق الأخلاقية، سيتم بقوة القانون، الذي يأخذ قوته من حاجة الناس إليه وتعبيره عن حاجة مجتمعية ملحة، وهنا تتسع دائرة القانون وتضيق دائرة الإلتزام الأخلاقي الذي كان متاحاً أمام الإعلامي.
الشاهد على ذلك أنه في بدايات نشأة الإذاعة في العالم العربي، تحت مسمى الإذاعات الأهلية، طل على الناس من خلال الميكروفون من استخدم لغة تخلو من اللياقة، فضلا عن التراشق بين الإذاعات والأشخاص بعضهم البعض، وغير ذلك كثير، الأمر الذي أدى إلى تدخل الدولة وإلغاء محطات الإذاعة الأهلية، وبدأت مرحلة الإذاعة الحكومية في الثلاثينيات من القرن الماضي.
الشاهد أن الممارسين هم الذين يحددون العوامل الحاكمة للمشهد الإعلامي، فضلا على ذلك فإن الوسيلة والممارس بحاجة إلى المؤازرة المجتمعية لهما، باعتبار أن قيمة أية ممارسة تأتي من إيمان الجمهور بها وحاجاتهم إليها، الأمر الذي يجعل لها قيمة كبرى بينهم ويدعم دورها ومكانة أصحابها.
وهذا لن يتأتى إلا إذا شعر المجتمع أنها تعمل لصالحه، وتمده بالخبر الصادق لا الكاذب، تنمي وعيه بدلاً من تغييبه، ترتقي بذوقه وتهذب سلوكه وفكره، وتمده بالمعلومة الصحيحة والكلمة الأمينة، ترفه عنه دون إسفاف، وتفتح له آفاقاً للمشاركة في تنمية وطنه وتصريف قدراته، وتكشف عن مواهبه وملكاته لما فيه صالحه وخدمة مجتمعه.
وتكون النافذة التي يطل منها على العالم من حوله وتوسع من مداركه، وتطلعه على تجارب الناس من حوله، تنمي لديه روح التسامح لا التعصب، ورغبة البناء لا الهدم، تجمع ولا تفرق، لا تبحث عن السبق بل المصداقية، تكشف عن الجوانب التي تحتاج إلى إصلاح دون الإساءة أو النيل من الآخرين وتجريح حياتهم.
هنا يكون الجمهور هو الظهير المجتمعي للوسيلة، ويقف بجانبها داعماً لها، بل وقد يغفر لها بعض الهنات إذا وقعت فيها دون قصد، بما لديها عنده من رصيد متراكم من العمل الجاد المخلص الصادق. وهنا كذلك تدعم مكان الإعلامي بين الناس، باعتبار أن المجتمع هو من يعطي قيمة المهن باعتبار مدى الحاجة إليها وكذلك الدور التي تمثله في حياته، وهو الأمر الذي يجب أن ينتبه إليه العاملون في مجال الإعلام.
وهنا أود التأكيد على أن كافة المهن تمر بمراحل حتى يحصل أصحابها على ترخيص لمزاولتها، ما يعني أنه مؤهل للوفاء بمتطلبات الوظيفة حتى بعد حصوله على المؤهل الدراسي في درجاته الجامعية، وقد يطلب منه أن يجتاز اختبارات تلي تلك المرحلة، مثل الطبيب أو الصيدلي أو المدرس الذي يتوجب عليهم الحصول على ترخيص المزاولة.
وهو الأمر الذي أجده للإعلامي أكثر احتياجاً باعتبار أنها مهنة تتسع أبوابها لخريجي تخصص الإعلام وغيرهم، ولا مانع في ذلك باعتبارها تعتمد على الاستعداد الذاتي إلى حد كبير، إن ذلك لا يحول دون اجتيازه لمراحل تأهيلية ونفسية حتى يتبين مدى قدرته على ممارسة العمل الإعلامي من الناحية المهنية والأخلاقية باعتبارهما وجهين لعملة واحدة.