أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب في الحادي والثلاثين من مارس المنصرم عن عزم إدارته على سحب القوات الأميركية من سوريا بأقرب وقت، ثم عاد ليتراجع عن ذلك بعد اجتماعه مع مجلس الأمن القومي، ثم عاد مجدداً بترديد موقفه بُعيد الضربة الصاروخية التي وجهت إلى سوريا بالاشتراك مع بريطانيا وفرنسا فجر الرابع عشر من أبريل الجاري رداً على الهجوم الكيماوي على دوما.
في ضوء هذه الصورة المتذبذبة والمحيرة للإدارة الأميركية نحاول قراءة أبعاد الضربة الصاروخية وتوقيتها والتعرف على أهدافها الحقيقية.
هذه الضربة كسابقتها في مارس 2017 التي قامت بها واشنطن من طرف واحد عملية محدودة موقعياً وزمنياً، ذات طابع عقابي لم تُستهدف فيها القدرات العسكرية للقوات المسلحة السورية، وجرى التخطيط لها وتنفيذها بعناية فائقة، بغية تلافي حصول أي احتكاك مع الوجود الروسي في بعض مناطق سوريا، إذ لم يدخل أي صاروخ مناطق الدفاعات الجوية الروسية في طرطوس وحميميم.
الغرض من الضربة إيصال رسالة محددة ذات فحوى سياسية، فهي ليست تدخلاً في الحرب الأهلية الدائرة في سوريا، وليست انحيازاً لطرف ضد آخر، بل تنفيذاً لإرادة دولية بمنع استخدام الأسلحة الكيمياوية. ومن المستبعد أن يكون لها صلة باستراتيجية غربية جديدة لمقاربة الملف السياسي السوري غير التذكير بضرورة التمسك بالحل السياسي وفق مسار جنيف.
وعموماً، لم تكن سوريا هي المقصودة بالضربة الصاروخية رغم أن بعض مؤسساتها كان هو المستهدف، فالبعد السياسي للضربة أكثر أهمية من بعدها العسكري؛ فهي رسالة موجهة إلى روسيا، بالدرجة الأولى، متخطية قدرات موسكو في حماية النظام السوري باستخدام الفيتو في مجلس الأمن، ومتحدية إياها في القدرة على حمايته خارج هذا المجلس. فالضربة تأتي في أجواء تصاعد المواجهات غير المباشرة بين الغرب، خاصة الولايات المتحدة وروسيا، حيث وُضعت موسكو في موقف من يتخلى عن الدفاع عن حليفه وهو يتعرض للضرب في عقر داره.
والدول الثلاث لم تخف سابقاً اتهاماتها لموسكو بالتغطية على تجاوزات النظام السوري منذ العام 2013، حين تخلى الرئيس الأميركي السابق أوباما عن خطوطه الحمراء، وامتنع عن القيام بإجراء عسكري بعد الهجوم بغاز السارين في خان العسل لصالح تخلي النظام عن مخزونه من هذا السلاح وتسليمه لإتلافه وإتلاف معدات صنعه، بضمانة روسية، تبين لاحقاً أن النظام لم يكن أمينا في تنفيذ هذا الاتفاق.
وأن روسيا لم تكن ضامناً حقيقياً، فقد استخدم السلاح الكيمياوي مرات عديدة في نطاقات ضيقة. هذا الخرق للاتفاق إن لم يكن قد أضر بالنظام السوري الذي لم يعد يهمه ما يتراكم من مآخذ على سياساته ومواقفه، إلا أنه وبكل تأكيد قد أضر بروسيا كثيراً بحكم مسؤولياتها الأخلاقية كدولة عظمى.
والحقيقة أن نجاح عملية عسكرية معينة مشروط بنتائجها، فالضربة الصاروخية الأولى عام 2017 لم تردع النظام السوري من إعادة الكرة. ومن المشكوك به أن تأتي الضربة الأخيرة بنتائج أفضل، فجميع ما له علاقة بالسلاح الكيماوي لا شك مؤمن في مخازن خاصة، وكان هناك فسحة كافية من الوقت، في الفترة ما بين انتشار الأخبار عن تعرض دوما لهجوم كيماوي لحين تنفيذ الضربة الصاروخية.
لاتخاذ الاحتياطات لإخفاء ما يمكن استهدافه. ولغرض إنهاء الجدال الطويل في مجلس الأمن حول تأكيد استخدام السلاح الكيماوي أو نفيه في سوريا قدمت الدول الثلاث بعد يوم واحد من الضربة الصاروخية مشروع قرار متعدد الأوجه، صاغته فرنسا حول إنشاء آلية للتحقق من ذلك.
من المحزن حقاً أن تُختزل المأساة السورية بملف السلاح الكيماوي فقط، دون التطرق إلى الأسلحة الأخرى، وبضمنها أكثر من مئتي سلاح روسي جديد تم اختباره في سوريا حسب تصريح رئيس لجنة مجلس الدوما لشؤون الدفاع فلاديمير شامانوف في الثاني والعشرين من فبراير المنصرم، أسلحة قتلت مئات الآلاف من المدنيين وشردت الملايين منهم وحولت عشرات المدن الجميلة إلى أنقاض.