النتائج المبهرة التي تمخضت عنها القمة الكورية صباح الجمعة الماضي فاقت بالفعل كل التوقعات وتجاوزت بكثير أبعد التصورات تفاؤلاً في أذهان المراقبين والمتابعين والسياسيين المعنيين بالأزمة الملتهبة في شبه الجزيرة الكورية، وألقت بظلالها الخطيرة على الشرق الآسيوي بأكمله، وكذلك العالم بشرقه وغربه وشماله وجنوبه.

بواعث عدة تدفع إلى طرح وتبني هذا الاستنتاج المثير، يأتي على رأسها بكل تأكيد أن القمة وما تمخضت عنه من نتائج - حتى ولو كانت بيانات ورقية حتى حينه - تمثل بالفعل تطوراً ثورياً عكس كل الاتجاهات والتوقعات فيما يتعلق بمجريات وسجالات الصراع الكوري، فمن مشاهد تسيطر عليها احتمالات متصاعدة لحرب وشيكة إلى حديث دافئ عن سلام دائم، ومن تهديدات بضرب العمق الأميركي بصواريخ باليستية ورؤوس نووية ومحو دول بعينها مثل كوريا الجنوبية من الوجود إلى تعهدات حازمة بصياغة معاهدة سلام شاملة بدلاً من الهدنة المعلنة بين شطري كوريا منذ خمسينيات القرن الماضي، وإعلان عن تبادل الزيارات لقادة البلدين خلال العام الجاري، إضافة إلى إجراءات أخرى لبناء الثقة على الصعيد الشرق آسيوي بأكمله.

بالقطع لا يمكن أن يكون هناك تمهيد أفضل من ذلك للقمة الأميركية - الكورية الشمالية المجدولة خلال الأسابيع القليلة المقبلة بين الرئيسين كيم «الحفيد» ودونالد ترامب، وقد سبق مثل هذا التمهيد المبهر خطوات أخرى من جانب كوريا الشمالية على رأسها وقف تجاربها النووية وتطوير برامجها الصاروخية وحديث عن استعداد بيونغ يانغ للتخلي عن سلاحها النووي.

لكن يبقى الأهم - إضافة إلى كل هذه الخطوات - اللغة الجديدة المسيطرة على السجالات المتبادلة بين الكوريتين من جانب وكذلك بين واشنطن وبيونغ يانغ من جانب آخر، فهي لغة تجنح إلى السلم تماماً وتبتعد كلياً عن «بلاغة» التهديد والوعيد والتصعيد العسكري والإعلامي، وقد طغت على الحديث رغبة واضحة وربما تعهدات أيضاً بالعمل على إخلاء شبه الجزيرة الكورية من أسلحة الدمار الشامل، وتمثل تلك التوجهات والخطوات الأخيرة بكل تأكيد تحولاً بنسبة 180 درجة في المواقف الكورية الشمالية، من أقصى مشاهد التطرف إلى أوضح رغبات السلام والانفتاح على مواقف ووجهات نظر مختلفة، إلى الحد الذي دفع بعض المراقبين السياسيين إلى التحدث عن توحيد شطري كوريا في دولة واحدة على غرار توحيد دولتي ألمانيا الغربية والشرقية في دولة واحدة بعد تحطيم سور برلين الشهير في ديسمبر عام 1989.

هذه التحولات الحادة والمفاجئة تغلفها بكل تأكيد طبقات كثيفة جداً من الغموض الذي قد تتضح معالمه ودوافعه في قادم الأيام، ولكن حتى اللحظة الجارية لا توجد أسباب واضحة أو مقنعة يمكن القول إنها تمثل الدافع الحقيقي للمواقف الكورية الشمالية الجديدة، ولكن هناك بالتأكيد شواهد أخرى عدة يمكن رصدها من قبيل الاجتهادات كأسباب ساعدت أو مهدت لهذه التحولات..

ومن حيث المبدأ قد يكون من المناسب استبعاد الضغوط العسكرية الأميركية وتهديدات واشنطن بتدمير البرامج الصاروخية والنووية الكورية الشمالية، فمثل هذه الحرب المحتملة أمر مستبعد نتيجة تداعياتها ونتائجها شديدة الخطورة، والتي يصعب حسابها بدقة لغموض مستوى التسلح الكوري الشمالي من ناحية، وأيضاً للموقف الإقليمي الرافض لهكذا حرب في المنطقة، خاصة من جانب الصين وروسيا وتحفظ اليابان وكوريا الجنوبية وسعيهما الدائم للوسائل الدبلوماسية والتفاوضية.

تبقى ضمن الأسباب «الاجتهادية» في محاولة فهم ما جرى العقوبات الاقتصادية والمالية الضخمة التي فرضتها واشنطن والأمم المتحدة على بيونغ يانغ، وهي عقوبات قاصمة تثقل كاهل الدول القادرة وليست المرهقة اقتصادياً فحسب، وما كان لكوريا الشمالية أن تتحملها لفترات طويلة وكذلك لم يكن في مقدور الصين تعويمها بكل ما تحتاج إليه من موارد وإمكانات ضخمة جداً إلى ما لا نهاية، فضلاً عن أن الصين من النواحي المعنوية والدبلوماسية وجدت نفسها في الغالب في موقف شديد الحرج أمام المجتمع الدولي بعدما صعدت بيونغ يانغ من تجاربها النووية والصاروخية وتهديداتها السافرة بضرب الأراضي الأميركية بصواريخ باليستية لديها القدرة على الوصول إلى أي مكان في الولايات المتحدة بشكل غير مسبوق.

وقد يكون من المبكر جداً الحديث عن تحولات استراتيجية حقيقية على صعيد شبه الجزيرة الكورية إلى الحد الذي يعيد تشكيلها ويجعل من توحيد شطريها الشمالي والجنوبي على غرار توحيد ألمانيا بشطريها الشرقي والغربي أمراً ممكناً، إلا أن الخطوات الأخيرة هي بالفعل تحولات مبهرة على طريق السلام حتى وإن كانت غامضة إلى حد كبير، ويمكن البناء عليها وتعظيم إيجابياتها في عملية تفاوضية طويلة شريطة التخلي عن الخناجر المخفية خلف الظهور لدى كل الأطراف.