توحيد شطري شبه الجزيرة الكورية، أمر مطروح للحوار والنقاش والتحليل في مواقع مختلفة، بعد قمة الكوريتين الأخيرة، على غرار توحيد شطري ألمانيا، بعد سنوات مماثلة من التقسيم.

ودون حرق مراحل عديدة، أو استباق للأحداث المستقبلية، يمكن التأكيد على أن توحيد شطري كوريا، سيكون نهاية المطاف، وخطوة لا بد من تحقيقها يوماً ما، مهما طال الزمن، وهذا ليس تنجيماً أو رجماً بالغيب، ولكنها حسابات سياسية بخلفية تاريخية، تؤكد حتمية حدوث تلك الخطوة الصعبة.

هناك بالفعل حسابات سياسية غاية في التعقيد لحدوث مثل هذا التوحيد، بعد عقود طويلة من التقسيم، هذه الحسابات لا تشمل الكوريتين فقط، ولكنها تمس بشكل مباشر، مصالح وسياسات قوى دولية وإقليمية كبرى، لأن توحيد الكوريتين، خطوة عملاقة لن تتحقق إلا بعملية سلام كبرى أولاً، وبإجراءات أمنية غير تقليدية ثانياً، وبتغيرات جيو- سياسية واستراتيجية، وربما عقائدية، ثالثاً.

تلك التحولات الثلاثية، تنطوي على نتائج خطيرة، وتحتاج إلى تحركات ثورية على الصعيد العالمي، لأنها في الغالب، تتطلب ثمناً باهظاً، قد يكون على القوى العالمية المؤثرة أن تدفعه، ليس من جيوبها ولا خزائنها، ولكن من وجودها الإقليمي ونفوذها العالمي على كل الأصعدة الاستراتيجية والسياسية.

ومن ثم الاقتصادية والمالية، وقد استوعبنا دائماً في العلوم السياسية، أن المبدأ الدائم لدى القوى العظمى، هو عدم الانسحاب من مناطق النفوذ مهما تطلب الأمر.

إن حالة السلام الحقيقية في شبه الجزيرة الكورية، وصولاً إلى توحيد الشطرين، لا تتطلب فحسب إجراءات لبناء الثقة، ولكن تستلزم خطوات عملية صعبة من مختلف الأطراف، تنطوي على تنازلات مريرة، وأغلب الظن، أن كوريا الشمالية والأطراف الإقليمية المساندة لها، وعلى رأسها الصين، تدرك هذه الحقائق جيداً.

وأغلب الظن أيضاً، أن رسائل السلام المبكرة التي قدمها كيم «الحفيد»، قبل قمته السابقة مع رئيس كوريا الجنوبية في بانمونجوم، وتلك المقررة مع الرئيس الأميركي دونالد ترامب، لا تنبع من فراغ، ولم تكن من وحي الخاطر اللحظي أو التفكير العشوائي.

فعندما يقرر كيم «الحفيد»، تجميد التجارب النووية، ووقف البرامج الصاروخية، وإغلاق موقع مهم للتجارب النووية، ثم يتخذ قرارات مع نظيره الكوري الجنوبي، بالعمل على إخلاء شبه الجزيرة الكورية من أسلحة الدمار الشامل، فلا شك في أنه بمثل هذه الخطوات، يتبنى ما يمكن وصفه بالهجوم السياسي والدبلوماسي الشامل.

وذلك يجعله في موقف تفاوضي قوي للغاية، لدرجة تتجاوز أسلحته النووية وصواريخه البالستية!!، عكس ما يتصور كثيرون، بأنه يقدم تنازلات مبكرة، فكاكاً من حالة الحصار والأزمة الدولية التي عاشتها بلاده في الأشهر الماضية..

بكل تأكيد، إجراءات بناء الثقة المتبادلة وسريان السلام، تستوجب خطوات مماثلة من الأطراف الأخرى، لإنهاء التوتر الأمني، ووضع حد للتصعيد العسكري والسياسي والإعلامي، وقد لا يتحقق ذلك إلا بنزع أسلحة الدمار لدى المعسكرات، أو المستودعات الأميركية في كوريا الجنوبية، وكذلك إغلاق القواعد الأميركية، وسحب الآلاف من العسكريين الأميركيين منها.

ومن قواعد أخرى بالمنطقة، ووقف كل المظاهر العسكرية في المنطقة، كالمناورات البحرية الحربية، ونشر منظومات ثاد وباتريوت المضادة للصواريخ، ووقف المناورات المستمرة للقاذفات الأميركية الثقيلة.

فإذا ما طالبت كوريا الشمالية بمثل هذه الخطوات، فربما يكون أمراً منطقياً، في ضوء الضمانات الدولية، وإجراءات بناء الثقة، التي تضمن توفير الحماية الدولية والإقليمية في إطار من التعاون والتعايش السلمي بين الشطرين المرشحين للوحدة يوماً ما، ليس هذا فحسب، فحالة التقارب المنتظرة بين الشطرين.

قد يعقبها تقارب مماثل مع اليابان والصين، لتولد في تلك المنطقة كتلة اقتصادية وبشرية هائلة، تجعل الوجود الأميركي في المنطقة، أمراً غير مرغوب فيه.

وربما هذه الحقائق، هي ما يدفع كثيراً من المحللين إلى التأكيد على أن العالم يميل نحو الشرق الآسيوي.. فهل تتحمل الولايات المتحدة ثمن السلام في شبه الجزيرة الكورية، وهل تسدده من نفوذها ووجودها الإقليمي، وهي التي اعتادت تكريس وجودها من اللعب على التناقضات الإقليمية في كثير من بقاع العالم؟

يجب أن نأخذ في الاعتبار، أن كوريا الجنوبية، كثيراً ما شهدت مظاهرات عارمة للمطالبة بالخروج الأميركي، فضلاً عن أن الرئيس الكوري الجنوبي المنتخب بأغلبية كبيرة في العام الماضي، بعد حملة كبرى، استند فيها إلى تبني لهجة تصالحية مع كوريا الشمالية، يرتبط بها ارتباطاً عضوياً.

ولا شك في أنه دفع في هذا الاتجاه بقوة منذ مجيئه للسلطة، وسط أتون مشتعل من التصعيد الخطير بين بيونغيانغ وواشنطن..جنوح هذا الرجل نحو السلام، لعب بالفعل دوراً مؤثراً في الفترة الأخيرة، وأغلب الظن أنه سيكون أكثر تأثيراً في المرحلة المقبلة.