لم يعد خافياً أن أزمة «سد النهضة» قد تجاوزت حدود الترويكا المعنية بهذا التأزم بشكل مباشر وهي مصر وأثيوبيا والسودان، فقد تحولت الخلافات المكتومة إلى مشاكل صريحة بعد تعثر المفاوضات في أكثر من جولة، ومعلنة ولم تتحرج الدول في ختام كل جولة مفاوضات أن تعلن عن إخفاق جديد في جهود التوصل لتسويات مقنعة للأزمات القائمة، وقد دفع ذلك بحديث الخلافات إلى عديد من دول القارة الإفريقية خاصة المعنية بحوض النيل في محاولات من داخل البيت الإفريقي للتوصل إلى حل يرضي مختلف الأطراف ويحافظ على حقوق الجميع، مع ضرورة التأكيد على أن مخاطر الاتفاق على أسس وآليات بناء السد وتخزين المياه خلفه هي أقل بكثير جداً من مخاطر أو مخاوف الاتفاق.
هذا السد الذي تغير اسمه أكثر من مرة؛ من سد القرن إلى سد الألفية وأخيراً استقرت أثيوبيا على تسميته «سد النهضة» وتعلق عليه آمالا كبيرة في تحقيق معدلات تنمية ضخمة، ليس فقط في مجال توليد وإنتاج الكهرباء ولكن أيضا في مجال الزراعة وأنشطة أخرى مرتبطة بها، والحقيقة أن مشروع بناء هذا السد ونحو ثلاثين سداً أخرى على النيل الأزرق ليست أفكاراً ولا مخططات جديدة على الإطلاق ولكنها موجودة من خلال مكاتب أميركية متخصصة منذ سنوات الستينيات من القرن الماضي ولجأت إليها الإدارات الأميركية كأوراق تهديد وابتزاز للدولة المصرية وهي تدرك جيدا مدى أهمية مياه النيل لبقاء مصر ذاتها، وقد كانت كذلك بالفعل لسنوات وقرون عديدة حيث لجأت أطراف خارجية واستعمارية إليها لتهديد الدولة المصرية، ولذلك لم يكن مستغرباً أن الدولة المصرية الحديثة التي أسسها الوالي محمد علي وخلفاؤه اعتبرت أن حدود مصر الطبيعية تنتهي حيث منابع نهر النيل تأكيدا على مقولة المؤرخ اليوناني الأشهر هيرودوت بأن «مصر هبة النيل».
والواقع أن استقرار مصر وصلابتها لعقود طويلة حال دون إقدام أثيوبيا على أي خطوة من شأنها أن تغير من الحقائق التاريخية والجغرافية للنهر أو بما يضر بمعادلة تدفق مياه النيل من الجنوب إلى الشمال، إلا أنه من الواضح أن الدولة الأثيوبية رأت في أحداث الربيع العربي وثورة الخامس والعشرين من يناير عام 2011 في مصر وما تبعها من حالة عدم استقرار سياسي واقتصادي وأمني فرصة سانحة لبناء السد وبمواصفات أسطورية تتجاوز حتى المواصفات التي كانت معلنة في البدايات.
الخطورة التي تستشعرها مصر من بناء سد النهضة بالمواصفات الحالية وعدم الاتفاق عليها مسبقاً ستنعكس تداعياتها السلبية على كافة نواحي الحياة في مصر اقتصادياً وزراعياً وبيئياً واجتماعياً كـ«تبوير» ملايين الأفدنة من الأراضي الزراعية وتهجير ملايين الفلاحين والمزارعين من قراهم وديارهم وتوقف السد العالي عن توليد الكهرباء وتدمير الثروة السمكية وتوقف الملاحة النهرية والرحلات السياحية النيلية وتوقف محطات مياه الشرب النقية عن العمل وخلق مشاكل اجتماعية لا حصر لها جراء النزوح والبطالة والفقر والأزمات الغذائية المنتظرة، وهي أضرار كارثية ليست من صنع الخيال ولكنها مرصودة في كثير من التقارير الدولية.
كل هذه العوامل والتبعات والشواغل أو المخاوف المصرية يفترض أن تدفع الجانب الإثيوبي إلى الإيمان بأن مخاطر وتداعيات عدم الاتفاق أكبر بكثير جدا من مخاطر الاتفاق، ويعكس ذلك الكلمات الهادئة والرصينة التي تحدث بها الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في أكثر من مناسبة أو تجمع أفريقي وكذلك في خطابه أمام البرلمان الإثيوبي عندما أكد ببساطة وحزم معاً أن نهر النيل بالنسبة لأثيوبيا هو مسألة تنمية ولكنه بالنسبة لمصر مسألة بقاء وحياة.
ليس غريباً إذن أن تتمسك مصر بحقوقها في مياه النيل وهي حقوق تاريخية وجغرافية مستقرة منذ عشرات آلاف السنين بهبة من الخالق سبحانه وتعالى، ومن ثم لا يجوز تغييرها بين عشية وضحاها أو بجرة قلم في تصرف أحادي من جانب طرف على حساب أطراف أخرى، وخيراً فعلت مصر في تعاملها مع هذا الملف الشائك وخاصة من خلال الدبلوماسية الهادئة للرئيس السيسي عندما اعترفت بحق إثيوبيا في استغلال مياه النيل لأغراض التنمية، ومن ثم تعمد الدولة المصرية إلى تكثيف اتصالاتها ومفاوضاتها مع الجانبين الإثيوبي والسوداني في محاولات جادة لبناء الثقة المتبادلة بين جميع الأطراف، لحتمية التخلي عن المواصفات القياسية الحالية للسد وكذلك ما يتعلق بسنوات التخزين وملء البحيرة الخاصة به، فقد بات من الضروري التوافق والإتفاق حول هذه الأمور لأن البدائل الأخرى أشد خطورة بكثير.