بالفعل إن له لنسائم عز أن تجدها في غيره من الأيام، ألم يفضله الله على غيره من شهور العام وخصه بنزول الوحي بالقرآن العظيم، وإن له لنفحات ننتظرها من العام للعام، كضيف عزيز جاء على شوق، نغتنم منه تلك النسائم اللطيفة العليلة التي يتنفسها العباد فتتغير حالة أجسادهم، فيرق القلب ويذهب ما علاه من ران بفعل شواغل الدنيا التي لا تنتهي، ويستعد لاستقبال تلك الحالة الخاصة بمزيد من الحرص على ألا يمر دون أن يأخذ نصيباً يعينه على مجريات الأحداث وخطوبها.
وتسمو النفس وتتبدل أحوالها من التعصب أحياناً والاعتداد بالذات في كل أحوالها إلى قدر من التسامح يتسع باتساع بركات تلك النفحات الربانية التي تملأها، ويرى كون الله وعظمته وقدرته على التصريف والتدبير ما يجعلنا نشعر بالفقر إليه وأنه هو الغني وحده، وأنه هو القادر وحده، وأن نعيم الدنيا دون رضاه ليس إلا عذاب.
نعم إنها نسائم رمضان التي يستنشقها العبد منا فتسري في جسده روح جديدة، تحول الشح إلى بذل بسعادة ورضا، وتجعل العين لا ترى في الغير إلا الطيب وتغض الطرف عن غيره، وكأنها تأبى أن تحرم من تلك المتعة التي وهبها الله لها، وتلك الفضائل كأغلى الهدايا من أجمل زائر.
نسائم رمضان التي تجعلنا ننظر في أوراقنا اليومية لنصل رحمنا بعد انشغال عز فيه الاتصال أحياناً ليتسق الفرد مع ذاته، وكأن رمضان يعيدنا إلى تلك الحالة الفطرية التي خلقنا الله عليها، باتساق فريد ونظام موقوت لنتعلم كيف تكون أحوال الناس، وأن تقدم الأمم لا يكون إلا عبر نظام ثابت يجتمعون عليه، كيف لا وهو شهر الهدى، كما أنه شهر الفرقان الذي فرق الله به بين الحق والباطل.
لقد أوصانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نعرض أنفسنا لنفحاته المباركة حين قال «إن لربكم في أيام دهركم نفحات، فتعرضوا لها، لعل أحدكم أن يصيبه منها نفحة، لا يشقى بعدها أبداً». وكيف يشقى الفرد وقد خص الله رمضان بليلة هي خير من ألف شهر، وهي ليلة القدر، من تعرض لها فقد فاز في الدنيا والآخرة، ومن حرم منها فقد حرم، والله سبحانه وتعالى جعل ليلة القدر من نسائم ولطائف شهر رمضان الكريم، وقد أوصى الرسول الكريم بالتماسها في العشر الأواخر من الشهر، وكأنها المكافأة التي يفوز بها من هيأته نسمات رمضان على استقبالها، وكأنها جائزة الصابرين المثابرين المرابطين المصرين على السير على درب ونهج رمضان، ذلك الذي يجعل من النفس هينة لينة طائعة حين تتعلم أن تتوقف أمام شهواتها، ويجعل اللسان رطباً بالذكر والدعاء، والقلب يتعلق باستقبال الخير والتجارة مع الله، فتكون سكنات النفس ذكراً، وحركتها عطاء من لا يخشى الفقر، ولأن أحوال الناس بين صعود وهبوط، والنفس بين همة واسترخاء، وبين إمساك وعطاء، كان شهر رمضان الذي يشحذ الهمم ويجدد الروح ويشد العزائم على استكمال الاستعانة بنسائمه على الهجير، وبمدد منه على كل صعب، والتأمل في الغاية من الحياة والعبرة من أحوال الناس وتجاربهم، عندما تذهب عن النفس أدرانها تصبح القدرة على الفكر أكبر، وعندما يكون التأمل، وهو من نسائم رمضان، هو منهجنا يكون الوصول إلى الحق والحقيقة لا شك فيه، لذا كانت وستظل نسائم رمضان مدرسة لكل الراغبين في أن يكون نصيبهم الأكبر من الخير لأنفسهم ولمن حولهم ولمجتمعاتهم.
يجب أن نجعل من نسائم رمضان فرصة لكل منا، لنرى كيف يمكن أن نستفيد من دروسه بما يخدم وطننا وأهلينا، وهي من أسمى ما يقدمه الفرد، لنجعل الدروس المستفادة من شهر العبادة قوة دافعة، لنكون أكثر إنتاجاً وعملاً وعطاءً، ولنفهم معنى العبادة الحقيقي التي تشمل جوهر الفعل وحقيقة النفس، لذا كان جزاء الصوم من عند الله حين قال في حديثه القدسي «كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به»، وذلك لعظم دور هذه العبادة وأثرها في الدنيا، حين تكون باباً للارتقاء، وفي الآخرة حين يفتح باب الريان للصائمين ولا يكون لغيرهم.