إنه رمضان الذي يبقى في الذاكرة طوال العمر، رمضان في عام العبور، وانتصار الأمة العربية في حرب أكتوبر 1973، والتي شاء لي القدر أن أعيش أيامها في الإمارات، وأن أتابع أحداثها من على ضفاف الخليج، حيث كانت العروبة تخوض معارك أخرى ما زالت تتواصل جولاتها حتى الآن.
كنت أواصل دوري في تأسيس وتطوير صحيفة «الاتحاد»، وكانت ظروف العمل صعبة والإمكانيات الفنية لا تزال محدودة، كان المقر بضع غرف في دائرة الإعلام في أبوظبي، وكانت الصحيفة تطبع في مطبعة خاصة بإمكانيات توفرت على عجل انتظاراً لإعداد الأفضل، لكنني كنت محباً للتجربة التي كانت جزءاً من تجربة أكبر وأشمل، وهي تجربة بناء الدولة الوليدة على أسس سليمة جعلت منها خلال سنوات قليلة نموذجاً يحتذى في التنمية والتقدم والنهضة على كل المستويات.
كان القائد المؤسس الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، يقود عملية بناء الدولة وسط أعتى التحديات، وكانت كل الإمارات قد بدأت تشهد بدايات التحول العظيم في كل مناحي الحياة، وكان رائعاً أن يكون بناء الإنسان هو الهدف الأول للتنمية، وأن يكون التعليم والثقافة في بؤرة الاهتمام، وأن تكون الصحافة والإعلام جزءاً أصيلاً من بناء يرتفع، ومن تنمية لا تتوقف.
جاء رمضان في ذلك العام، يتضاعف الحنين إلى مصر في هذا الشهر الكريم، ويزداد الألم من تأخر معركة الثأر من هزيمة لا نستحقها. ألمي كان أكبر.. فأنا ابن مدينة صنعت النصر في حرب السويس التي غيرت مجرى التاريخ، وهي الآن خالية من سكانها حتى لا يكونوا رهينة لدى جنود الأعداء على الضفة الأخرى من القناة، وأنا ابن عقيدة تؤمن أن ما حدث لا رد عليه إلا بانتصار يعيد الأمور إلى نصابها.
فجأة.. تدق أجراس آلات «التيكرز» التي تنقل الأخبار من وكالات الأنباء العالمية، تتوالى البيانات التي كانت في البداية متحفظة للغاية من جانب مصر، لكن الصورة تبدأ في الوضوح مع توالي الأنباء من مختلف المصادر، إنه العبور المنتظر والثأر الذي لم يكن منه بد.
تتوالى الأنباء نعرف أن الهجوم كان على الجبهة المصرية والسورية في وقت واحد، الضربة مذهلة والعدو يتراجع. لم تكن هناك فضائيات ولا وسائل اتصال متقدمة، كما هو الحال اليوم، سهر الجميع بعد ذلك حتى الفجر ليروا أول لقطات للعبور، لم تكن جيدة لأن القيادة كانت مشغولة بالحرب أكثر من تسجيلها.
تحول مقر الصحيفة إلى موقع للمتابعة من مسؤولين كبار ومن كل السفراء العرب، كانت صفحة جديدة من التاريخ تكتب، وللمرة الأولى يستخدم العرب كل إمكانياتهم، دول شاركت مع مصر وسوريا في القتال، ودول دعمت بكل ما تملك، بينما يدخل سلاح البترول في المعركة للمرة الأولى.
وهنا كان موقف زايد التاريخي، لم يتوقف الرجل عند الدعم المادي الذي قدمه على الفور لمصر وسوريا، ولم يكتف بقرار المقاطعة الجزئية الذي اتخذه المسؤولون في دول البترول العربية، بل قرر أن يمنع تصدير البترول بصورة شاملة وكاملة لأي دولة تدعم الكيان الصهيوني.
كم كان صعباً أن يكون الإنسان بعيداً عن مصر في هذه الظروف، لكن ما خفف من الأمر هو أن تكون وسط هذا البحر من المشاعر الفياضة، أن تجد كل العرب حولك ومعك، وأن تجد الإمارات تحتضن الجميع وتقول إن العروبة ليست بالأناشيد وإنما بالمواقف، وأن كل ما يملكه العرب هو رصيد لدعم النصر القادم بإذن الله.
لن أنسى مطلقاً مشهد المئات وهم يحتشدون أمام المطبعة في الصباح الباكر ينتظرون نسخ الصحيفة، ولا مشهد الزملاء وهم يواصلون العمل ليل نهار ولأيام متواصلة، ولا العمال وهو يختطفون دقائق ينامونها بجانب الآلات، ولا مشهد الفرحة بالنصر في العيون التي أتعبتها الهزيمة وأتعبها أكثر الانتظار الأليم للثأر الموعود.
ومضت الأحداث بعد ذلك حتى وقف إطلاق النار، اطمأننت على سلامة شقيقي الضابط المقاتل على الجبهة، وبدأنا نتابع ما يجري بعد أن انتقلت الحرب من مواقع القتال إلى ميادين السياسة ودروب المفاوضات.
النصر العظيم أكسبنا احترام العالم كله، لكن الأهم أنه أعاد لنا الثقة بالنفس، وأكد لنا أن الحديث عن العروبة والتضامن العربي والعمل المشترك ليست أحاديث عن أوهام ـ بل عن الحقيقة الوحيدة التي تمكننا من قهر التحديات وصنع المستقبل.
ولم تكن مصادفة أن يشهد العام 1979 استيلاء الخميني على السلطة في إيران وبدء مأساة تصوير الثورة الخمينية المستمرة حتى الآن، وأن يشهد العام نفسه الشرخ الهائل في العلاقات العربية مع اتفاقية كامب ديفيد وما تبعها من مقاطعة عربية لمصر، ومن تفتت للجبهة العربية التي توحدت وحاربت وانتصرت.
ولم تكن مصادفة أن تكون الفترة بعد أكتوبر 73 هي فترة الدعم الخارجي اللا محدود لتجار الدين بزعامة جماعة الإخوان الإرهابية، لتصل الأمة العربية إلى قلب الخطر، بعد أن أصبحت هذه الجماعات هي الوجه المقاتل لإرهاب ورثة الخميني في إيران، وليصبح الوجهان القبيحان للإرهاب، هما السلاح الأساسي الموجه لصدر العرب، والذي يستهدف كل ما هو عربي.
مرت سنوات عدة ومازالت لحظة العبور العظيم تملأ الذاكرة، ومازال عطر النصر باقياً رغم كل ما حدث، قبل أيام كانت أميركا وإسرائيل تحتفلان بافتتاح السفارة الأميركية في القدس، ومع الاحتفال كانت المجزرة التي قتل فيها جنود إسرائيل بدم بارد أكثر من ستين فلسطينياً تظاهروا سلمياً في ذكرى «النكبة».
أتابع كل ذلك وأتذكر مشهدين.. في المشهد الأول كان موشى ديان بعد يونيو 67 يقول متباهياً إنه ينتظر مكالمة تليفونية من جمال عبد الناصر تخرج مصر من الصراع. وكان رد عبد الناصر هو: القدس قبل سيناء، بينما كان يبني جيش العبور الذي انتصر له ولمصر والعرب بعد رحيله.
وفي المشهد الثاني.. كان موشى ديان يصرخ باكياً بأن إسرائيل انتهت وهو يشهد هزيمة جيشه وانهيار قادته ويستجدي التدخل الأميركي الذي أنقذ الكيان الصهيوني من نهاية محتومة.
أتذكر المشهدين، وأعود إلى تلك اللحظة التي استقبلت فيها، وأنا في أبوظبي، أول أنباء العبور العظيم.. فيملؤني الإيمان بأن لحظة أخرى للحقيقة لا بد أن تعود.