قراءة هادئة ومتأنية ومن دون انفعال أو حماسة مفرطة لهذه «المشاهد الإرهابية» التي وقعت في مناطق شتى تكشف بوضوح أن أي مؤسسة دينية ليست مطالبة على الإطلاق بإصدار فتوى لتكفير الإرهابيين أو حتى الدخول في حوار فكري معهم في محاولة لإثنائهم عن مروقهم وانحرافاتهم الواضحة، ومرد ذلك إلى طبيعة الشخصية الإرهابية ذاتها سواء بشكل فردي أو جماعي، حيث تحجم الغالبية العظمى منهم عن الإنصات أو الاستماع لأي وجهة نظر تخالف توجهاتهم «الفكرية» بعدما خضعوا لعمليات «غسيل مخ» مكثفة يصعب الرجوع عنها، وكذلك لأن لغة التشدد والتطرف التي تتحول في كثير من المراحل التالية إلى إرهاب مسلح لا يصلح معها أي جدل فكري، وقد أثبتت التجارب السابقة صحة هذا التحليل.
ولعلنا نجد في كلمات صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة وصفاً مكثفاً وتشخيصاً دقيقاً للمشكلة ذاتها ومقاربة عملية لمواجهتها، بتأكيده «أن التطرف والإرهاب الذي تعانيه المنطقة تغذيه سياسات مدفوعة بطموحات الهيمنة ومغامرات النفوذ من دول تدعم الجماعات الإرهابية والمتطرفة وتمولها». ولقد سبق للرئيس المصري عبد الفتاح السيسي أن أكد في كلمته أمام القمة الإسلامية ـ الأميركية منتصف العام الماضي أن الدول الحاضنة للإرهاب هي الخطر الأكبر في تفشي تلك الظاهرة.
وباتت ممارسات الإرهابيين من دون اجتهاد كبير متجاوزة لكل قيم دينية وأسس قانونية، وما داموا قد رفعوا السلاح في وجه السلطات الشرعية والمواطنين الأبرياء والمدنيين العزل فهم بذلك خارجون على القانون والنظام العام مثلهم في ذلك مثل المجرمين والبلطجية والشبيحة وكل من يستعمل سلاحاً خارج إطار الشرعية، يجب مواجهته بكل قوة وبكل الأسلحة الممكنة لردعه حفاظاً على سلامة المجتمع واستقراره، فما الفائدة هنا من التفرقة بين شخص يحمل السلاح للقيام بسطو مسلح وآخر يحمله بزعم ترويج أفكار معينة؟!.. يجب أن يكون الاثنان سواء أمام قوة القانون وهيبة الدولة بلا فتاوى دينية.
المبدأ أن الإرهابيين يجب ألا يواجهوا إلا بالسلاح وبمنتهى القوة ما دامت الضرورة تفرض ذلك. أما ما يتعلق بالمعركة الفكرية فهي مسألة حتمية يجب أن تحرص عليها المجتمعات والأنظمة الحاكمة والمؤسسات والهيئات الثقافية بشكل دائم وممنهج للتصدي للأفكار الضالة ومظاهر التطرف والتشدد - الملفوظ دينياً كذلك – ليس بهدف استقطاب الإرهابيين لصفوف الاعتدال، ولكن لحماية أجيال الحاضر والمستقبل وتنشئتهم على القيم الدينية والفكرية السليمة الرافضة للعنف والكراهية والتطرف وتحض على الوسطية والاعتدال والتسامح وقبول الآخر ضمن منظومة سلوكية وقانونية تكفل حماية حقوق الأفراد واستقرار وسلامة المجتمعات.
وفي هذا فليجتهد المجتهدون من شتى القطاعات المجتمعية، وليست الدينية فحسب، بداية من المنزل إلى المدرسة إلى الجامعة إلى الهيئات والمؤسسات الحاضنة للجموع الشعبية، فاللحمة الوطنية تتحقق بالتأكيد بمثل هذه الممارسات والثبات الفكري والثقافي الذي يحمي النهج المعتدل، أما الإرهابيون فهم بحق ليسوا بحاجة إلى محاولات إصلاحية لأنهم ينتمون لمنظومة فكرية مختلفة لا تخلو جعبتها من ذرائع واهية لا تنتهي، وهم في استخدامهم تلك الذرائع لا يعرفون قواعد الرحمة أو التسامح أو الدعوة إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة أو الدفع بالتي هي أحسن، وإنما يسحقون خصومهم بالقتل والسحل والحرق وتكفير المجتمع والخصوم ويحرمون المرأة حقوقها ويضعونها في الدرك الأسفل من الإنسانية!
أضف إلى ذلك مسألة مهمة، فهذه الجماعات الإرهابية التي ينبغي عدم نعتها من قريب أو بعيد بأي وصف ديني هي جماعات سياسية في المقام الأول وتسعى لتحقيق أهداف سياسية، حتى لو كانت تفعل ذلك تحت مظلة من الشعارات الدينية، وعديد منها يعمل لحساب أنظمة وأجهزة مخابرات خارجية تسعى هي ذاتها لتحقيق مصالح سياسية ذاتية حتى ولو عن طريق تخريب المجتمعات بواسطة استخدام تلك الجماعات التي تستجيب لذلك عن جهل وعدم وعي أو بطيب خاطر، الأمر الذي يدفعنا مجدداً إلى التأكيد على أن تلك الجماعات ليست بحاجة لجدل فكري أو فتوى دينية لتكفيرها وإنما لمواجهات أمنية وعسكرية حازمة، علاوة على مقاربات أخرى.