يأتي رمضان محملاً بنفحات تخصه دون غيره، وبأجواء تزين لياليه تسودها روح غير الروح، وكأنها تبدلت وتزينت برحمات شهر القرآن، كيف لا، ألم يفضله الله على باقي شهور العام، وكرمه بنزول القرآن الكريم، ولا شك أن من مظاهر عطاءات ليالي رمضان، والتي تنتشر في ربوع الوطن من أقصاه إلى أقصاه، تلك المجالس العامرة باجتماع أبناء الوطن سواء على مستوى القيادة والمؤسسات الرسمية، أو على المستوى الأهلي والمؤسسات غير الحكومية، لإحياء تلك الليالي بهذه التجمعات واللقاءات، التي ارتكزت عليها سياسة الإمارات منذ التأسيس، ذلك التواصل اللين بين القيادة والشعب، من خلال مجالس تعقد وأبواب تفتح، وقلوب تحنو على أبناء الإمارات، هذا التقليد القديم المتجدد الذي هو في نقطة الارتكاز بين القيادة والشعب، يتوارثه الخلف عن السلف مهما ارتقت وتحدثت وسائل التواصل الإلكترونية وغيرها من وسائل التواصل الحديثة، إلا أن التماس باليد والحديث مباشرة يظل له وقعه الخاص في النفوس، هذه المجالس التي تظل ملمحا كبيرا ورسالة ولاء للوطن والقيادة من أبناء الشعب، تلك الوفود التي تترى في كل ليلة من ليالي هذا الشهر والتي تنتقل في كل ليلة من مجلس خير إلى مجلس خير آخر، لتوضح أن بيت الإمارات العربية المتحدة سيظل متوحداً، وستظل لحمة شعبه تزداد قوة عاما بعد عام.
ولا شك أن هذا التوازن بين الانفتاح على العالم، من خلال استخدام أحدث وسائل التواصل سواء بين القيادة والشعب أو بين أفراد الشعب أنفسهم، وبين الحفاظ على المنظومة القيمية، التي ميزت مجتمعاتنا من خلال هذا التواصل المباشر بما يحمله من دلالات، لا يمكن أن تغني عنها غيرها مهما كانت حداثتها.
من ناحية أخرى لقد باتت هذه المجالس من أهم الروافد الثقافية التي تغمر ليالي هذا الشهر الكريم بالفكر المستنير على طول البلاد وعرضها، تتناول ما يهم الوطن والمواطن يتم الإعداد لها وينظم المواطن وقته لكي يحظى بالنصيب الأكبر من حضور تلك المجالس، ولا شك أن نسائم الشهر الكريم وما يحدثه في النفوس يكون لها الأثر الأكبر في ما يغشى هذه المجالس الطيبة من تسابق نحو كل خير عبر تناول مختلف القضايا وكذلك تلاقح الأفكار الخيرة لما ينفع الوطن والمواطن، لتصبح تلك المجالس منبعا للأفكار وبيتا للخبرات الوطنية وسياجا حاميا وحافظا لمنظومة من القيم والتقاليد التي توارثها شعب الإمارات ولايزال، وخاصة أنه يرتاد هذه المجالس الشباب إلى جانب الشيبة والأبناء إلى جانب الآباء ليكونوا لهم قدوة ومثلا شاخصا أمام أبصارهم، ولا شك أن المشافهة بين الأب والأبناء والجد والأحفاد كانت ولا تزال من أكثر الأوعية الحاملة والحافظة للثقافة.
وفي تقديري أن تلك المجالس تمثل حائط صد أمام الكثير من التحديات التي نواجهها، كما أنها تقطع الطريق على كل من أراد النيل من هذا الوطن المعطاء بهذه الصورة الباهية الناصعة وأبناء الوطن يتحلقون حول قيادتهم الرشيدة من ناحية، وبين بعضهم البعض من ناحية أخرى، فيما يجمعهم رباط لا انفكاك منه، وتملأ أقطار نفوسهم قضية كبرى أساسها حب الوطن، والبذل دونه، والتضحية من أجله مهما غلت، والحفاظ على ما حققه ويحققه من مكتسبات تزيد كل يوم، ليكون دائما في الصدارة بين الشعوب.
إن مجالس رمضان قد تجاوزت الأطر التظاهرية الشكلية، لكنها باتت منصة لطرح المبادرات الفاعلة، وساحة للتعبير عن الرأي لهذا التنوع الهائل بين مرتاديها، كما أن انفتاح هذه المجالس يجعل طرح الأفكار يتم بأريحية كبيرة، وهو الأمر الذي يجعل لها ما بعدها من إجراءات وقرارات قد تصدر بناء على ما تم طرحه من أفكار مادام فيها الخير للوطن والمواطن، كما أنها قد تحدد إجراءات يتم اتخاذها تنعكس على مسيرة الناس اليومية، أليست هذه المجالس تعقد في شهر الخير والبركة.
في تقديري أن مجالس رمضان باتت تمثل مجالس شورى وبرلمانات غير رسمية، لكنها بلا شك تؤثر في أولويات عمل العديد من المؤسسات التي تحرص على أن تكون على خطوط التماس مع المواطن، كما أن طبيعة ما تطرحه من قضايا محلية ووطنية يمكن لها أن تفيد في برامج عمل المؤسسات والوزارات، وتلك هي المعادلة الصعبة التي حققتها الإمارات بين الانفتاح على العالم، ولكن من خلال منظومة ثقافية وقيمية خالصة الوطنية والتميز.