زارني صحافي بريطاني كان يريد أن يعرف كيف كانت مصر منذ خمسين عاماً، وقد شجعه على هذا عنوان كتابي «ماذا حدث للمصريين بين 1945- 1995».

قلت له إني ما زلت أذكر أشياء كثيرة عن أحوال المصريين في أعقاب الحرب العالمية الثانية، وأذكر ما كان المصريون يشعرون به نحو الملك فاروق «وقد كانت في الغالب مشاعر سخط واستياء لما كان يصل إلى أسماعنا من أخبار عن علاقاته النسائية وإدمان الخمر والمقامرة..إلخ».

وانقلب استياؤنا إلى سرور غامر بقيام ثورة 1952 (التي كان الضباط يسمونها في البداية «حركة» وقد يضيفون وصف«مباركة») أصابنا شعور مؤقت بخيبة الأمل في 1954عندما أعلن عن تنحية محمد نجيب عن الحكم بسبب خلافه مع بعض الضباط «ولم يكن اسم جمال عبد الناصر يذكر كثيراً في ذلك الوقت».

ولكن سرعان ما عاد إلينا التفاؤل عندما سمعنا خطاب تأميم قناة السويس في يوليو 1956 ثم إعلان اتحاد مصر وسوريا في فبراير 1958، وفرح كثيرون (وأنا منهم) بصدور إجراءات التأميم في 1961، وإن أصابتنا خيبة أمل عندما أعلنت سوريا انفصالها عن مصر بعد التأميمات بشهور قليلة، ولم يلق ذهاب الجيش المصري إلى اليمن لتأييد الانقلاب الذي حدث فيها في 1962، ترحيباً كبيراً في داخل مصر. ثم زاد ضيقنا مع ازدياد درجة الدكتاتورية وتحول مصر أكثر فأكثر إلى دولة بوليسية حتى وقعت الضربة القاصمة في 1967.

سألني الصحافي البريطاني عن صحة ما ذكرته في أحد كتبي من أن أثر هزيمة 1967 في نفوس المصريين ما زال قائماً حتى الآن رغم مرور أكثر من خمسين عاماً عليها، فأجبته بعد تفكير لم يستمر طويلاً بأنني أظن أنه ما زال قائماً. قلت له إن آمالنا كانت قد ارتفعت قبيل الهزيمة إلى عنان السماء، تحت تأثير الدعاية السياسية المستمرة، فجاء مضاعفاً في قسوته وسرعته كان الترنح شديداً وكأننا لا ندري ما الذي يمكن أن نصنعه.

استمرت أحوالنا أقرب إلى الذهول منها إلى أي شيء آخر لسنوات عدة بعد الهزيمة، واقترن ذلك بتدهور شديد في الأحوال الاقتصادية، توقف أو شبه توقف تام في الاستثمارات الأجنبية والمعونات الخارجية (فيما عدا بعض المنح التي تعطى على سبيل العطف من بعض الدول العربية)، وهروب المستثمرين المصريين إلى الخارج، وكذلك كثير من أصحاب الكفاءات وشيوع البطالة، واقترن هذا بإغلاق قناة السويس، ومن ثم توقف إيراداتها.

استمرت الحالة الاقتصادية السيئة حتى منتصف السبعينيات عندما أعلن أنور السادات تبني سياسة الانفتاح التي اقترنت أيضاً ببدء حركة هجرة واسعة إلى دول الخليج مع الارتفاع المفاجئ في أسعار النفط.

عاد الاقتصاد إلى الانتعاش بل وارتفع بشدة معدل نمو الناتج القومي في السنوات العشر التالية (75-1985)، تجاوزت 7% سنوياً، ثم عادت الأمور إلى مستوياتها الطبيعية منذ ذلك الحين، بعد ميل أسعار النفط إلى الانخفاض وبدء عودة أعداد كبيرة من المهاجرين إلى مصر خاصة بعد هجوم العراق على الكويت.

منذ ذلك الوقت تراوح معدل نمو الناتج القومي بين 4 و5% وهو معدل يزيد على معدل نمو السكان، ولكنه لا يشيع تفاؤلاً كبيراً في المستقبل الاقتصادي.

كان ما يحدث للاقتصاد المصري منذ السبعينيات انعكاس لما يحدث في معظم أجزاء العالم. انفتحت بلاد العالم بعضها على بعض (باستثناءات قليلة للغاية أشهرها كوريا الشمالية)، واقترن ذلك بتفاؤل دور الدولة وانسحابها أكثر فأكثر من التدخل في أحوال الاقتصاد والمجتمع، فأصبح ما يجري في كل دولة يعبر أكثر فأكثر عن مصالح الشركات متعددة الجنسية: أين تريد أن تستثمر؟ وفي أي الأسواق تريد أن تبيع؟ ومن ثم أين ترتفع معدلات التشغيل وتنخفض البطالة، وأي المنتجات يزيد إنتاجها واستهلاكها، وأيها يختفي من الأسواق؟

ضعف دور الدولة، وكاد يختفي ما كان يسمي «بالتخطيط القومي» وحل محله التخطيط الذي تقوم به هذه الشركات لتحقيق أقصى ربح.

كان هذا التطور (حلول دور الشركات العملاقة محل دور الدولة في تشكيل الاقتصاد) جزءاً مما يسمى بظاهرة «العولمة» التي اكتسحت جزءاً بعد آخر من العالم منذ أوائل السبعينيات، وكان حالنا في الأمور الاقتصادية مثل حال قارب شراعي صغير كان يسير في البداية في نهر ضيق ثم وجد نفسه فجأة وقد وصل إلى بحر واسع تتلاطم أمواجه ولا يملك القارب بشراعه الصغير حرية اختيار مساره.

*مفكر اقتصادي