الضربات القاسية التي تعرض لها الفلسطينيون والقضية الفلسطينية عموماً خلال الأشهر والأيام القليلة الماضية تمثل واحدة من الموجات السلبية العاتية التي كلفت الفلسطينيين والشرق الأوسط ثمناً باهظاً تتواصل تداعياته السلبية وتأثيراته الكارثية على أكثر من صعيد، فالمجزرة الدامية التي تعرض لها الفلسطينيون يوم «الاحتفال» بنقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس وما سبقها من مجازر أخرى تزامناً مع المسيرات الفلسطينية في ذكرى يوم الأرض لم تكن الأولى وأغلب الظن أنها لن تكون الأخيرة مهما اتسعت وتمددت موجات الغضب الرافضة لهكذا ممارسات.
لقد تعددت بالفعل على الصعد الإقليمية والعالمية والأممية ردود الفعل الغاضبة والمستنكرة للهمجية الإسرائيلية في التعامل مع الاحتجاجات الفلسطينية ضد نقل السفارة الأميركية وإحياء الفلسطينيين ذكرى يوم الأرض، إلا أنها جميعاً لم تتجاوز حدود الردود التقليدية والنمطية التي لا تغير كثيراً في طبيعة المشهد ولا ترتب أي مسؤوليات سياسية أو قانونية ملزمة على الطرف الإسرائيلي، حتى ولو صاحبتها دعاوى مهمة جداً انطلقت من جهات مسؤولة تطالب بتحقيقات دولية مستقلة لمعاقبة الطرف المسؤول، أهمها في هذا الصدد قرار مجلس الأمم المتحدة لحقوق الإنسان الذي اعتمد بالفعل قراراً إرسال لجنة تحقيق دولية مستقلة إلى غزة.
إلا أن هذه المواقف وقياساً على مواقف أخرى سابقة لن تؤتي ثمارها ولن تحقق الهدف المنشود من ورائها، لتصبح النتيجة المحتومة في ضوء قراءة هذا المشهد الدولي الراهن الذي يلعب تماماً لصالح الكيان الصهيوني مزيداً من النتائج السلبية على الفلسطينيين سياسياً واقتصادياً وإنسانياً، فالثمن الباهظ الذي يدفعه الفلسطينيون من أرواحهم وممتلكاتهم وأمنهم واستقرارهم نتيجة العنف الصهيوني غير المبرر في مواجهة الاحتجاجات الفلسطينية السلمية في عمومها يعد بالفعل من التداعيات السلبية الخطيرة التي لا تؤتي ثماراً يانعة من أي نوع!!
ويمكن في هذا السياق رصد مجموعة من الأصوات الغاضبة مثل جامعة الدول العربية التي طالبت في اجتماعها الطارئ مجلس الأمن الدولي بتشكيل لجنة مستقلة للتحقيق في سفك الاحتلال الإسرائيلي دماء المتظاهرين الفلسطينيين السلميين، محذرة على لسان أمينها العام من أنه إذا استمر مجلس الأمن في فشله الحالي فإن اللجوء للجمعية العامة للأمم المتحدة سيكون مطروحاً فيما يتعلق بتوفير الحماية للشعب الفلسطيني وتشكيل لجنة للتحقيق في الأحداث.
وكذلك هناك أصوات دولية وأممية أخرى حذرت من مخاطر التصعيد وتداعياته في المنطقة، في حين انتقد عضو مجلس الشيوخ الأميركي المخضرم بيرنى ساندرز أعمال العنف الإسرائيلية ضد الفلسطينيين المشاركين في التظاهرات السلمية في القطاع، متهماً إسرائيل باتخاذ رد فعل مبالغ فيه ضد المتظاهرين السلميين،واصفاً مقتل الفلسطينيين برصاص القوات الإسرائيلية بأنه يمثل مأساة.
ويرى العضو الأميركي أن من حق جميع الأشخاص أن يتظاهروا من أجل الحصول على مستقبل أفضل من دون أن يتم الرد عليهم بعنف وأن الموقف في غزة مازال يمثل كارثة إنسانية ويتعين على الولايات المتحدة أن تلعب دوراً أكثر إيجابية لإنهاء حصار غزة وأن تساعد الفلسطينيين والإسرائيليين على خلق مستقبل أفضل للجميع.
إلا أن صحيفة واشنطن بوست الأميركية كانت أكثر واقعية بتأكيدها أن إسرائيل لا تخشى من الكلفة السياسية القليلة التي سترتد عليها في حال قتلت المزيد من الفلسطينيين كما فعلت في مواجهات غزة، وأن إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب ساعدت في إثارة الغضب الفلسطيني بعد قرار نقل السفارة الأميركية في إسرائيل إلى القدس، ومن ثم لم يعد بإمكان الفلسطينيين الوثوق في واشنطن بعد هذا القرار ولم تعد بالنسبة لهم وسيطاً عادلاً في عملية السلام المتوقفة منذ فترة طويلة وأن الطريقة التي ردت بها إسرائيل على هذه الاحتجاجات قد تكون بمناسبة إشارة تحذيرية، مضيفة أن إسرائيل تهدد بإمكانية إراقة المزيد من الدماء في حال استمر هذا التصعيد.
ليس من قبيل المبالغة التأكيد على أن إدارة ترامب لم تعد ترى إلا المصالح الإسرائيلية العليا باعتبارها حليفها الحقيقي في المنطقة، ولم تعد تعير أي اهتمام للمصالح أو الحقوق العربية والفلسطينية منها على وجه الخصوص.
وهنا مربط الفرس والسؤال الشائك؛ هل يواصل الفلسطينيون نزف المزيد من الدماء وتقديم مئات الشهداء فقط لمجرد تذكير العالم بأن هناك قضية لم تحل وشعباً مضطهداً لم يحصل على حقوقه، أم أن الظروف ذاتها تحتم البحث عن مقاربات سياسية ودبلوماسية جديدة وفق قواعد جديدة تحول دون موت الشعب والقضية معاً ؟