مشهد هو الحاضر الغالب، إذا وليت وجهك حيثما كان تجده شاخصاً أمامك طوال هذا الشهر الكريم في أرجاء الوطن، وهو التسابق إلى فعل الخيرات، والبحث الدائم عن أبوابها، وكأن الإمارات بحدائقها السبع ما فتئت تنثر رياحين الخير لتعم وتملأ أرجاء الوطن، لا تسأل عن اسم أو رسم أو لون أو جنس أو عرق، لكنه حب الخير وفعله وتقديمه يصيب من يصيب ويحط برحاله حيثما تكون، فسوف ينبت محبة ووئاماً والتحاماً بين أبناء الوطن والمقيمين على أرضه، لتظل الإمارات أرض الخير وعاصمة العطاء الإنساني.
هناك العديد من المشاهد التي عشناها خلال هذا الشهر، الذي لم يتبق من أيامه المباركة غير ساعات، تستوجب التوقف والتأمل منها، حملات الخير التي تصدرها الأطفال الذين يقفون ينتظرون على شوق صيد الخير من الصائمين في الطرق وعند التقاطعات والإشارات لينثروا عليهم عبير العطاء، تحفها الابتسامة، التي لا تفارق وجوهم، لتبعث في النفس أجمل المعاني قبل أن تمتد إليهم أيديهم التي قد تعاني في الوصول، لكن محبة القلب تصل قبل الأيادي، فتبث في النفس البشر والسعادة والطمأنينة، كيف لا؟ إن الطفل يربى منذ نعومة أظفاره على فعل الخير، ومحبة العطاء، والبذل والمشاركة بالفعل لا بالقول فحسب.
هذا البيان العملي لا شك يعمق الاطمئنان لدينا من أن مسيرة الخير، التي شقت الإمارات لها طرقاً عديدة ومهدت لها السبل، لم ولن تنقطع أبداً، وسيتوارثها خلف عن سلف، ليظل عقد البهاء والنماء والجمال والعطاء ممتداً عبر الأجيال وعلى امتداد العصور، وتبقى راية الخير ترفرف لتخبر العالم كله هنا مصانع الرجال الخيرين الذي لم يعيشوا لأنفسهم بعيداً عن إخوانهم في الإنسانية فاستحقوا الحياة الكريمة الطيبة معنى ومبنى، هنا أبناء زايد الخير الذين تربوا وما زالوا يتعلمون في مدرسته متعة العطاء وجمال الإحساس به، فتحول لديهم من مشقة إلى حالة من الاستمتاع به، والإحساس بسعادة غامرة حين يكونون في ميدانه، وها هو جوهر العطاء، والإنسان لا يتذوقه مهما كان حجمه سوى الذي عرف جوهره وذاق حلاوته، ومن ذاق عرف.
ولا شك أن نفحات شهر رمضان المبارك تبث في النفس حالة يعجز الإنسان عن وصفها، وكأنها تبدله نفساً وروحاً وتجعله أكثر إقبالاً ومسارعة ومنافسة على الإجادة لفعل الخيرات بمختلف أوجهها، وكأن بصمات رمضان تكشف حقيقة النفس الإنسانية التي أساسها الخير والعطاء ومحبة الغير، وعدا ذلك فهو طارئ عابر.
الأمر المؤكد أن تلك الحالة التي تستوقف كل ملاحظ ومدقق تؤكد أن قيمة العطاء لا تكون هكذا بين عشية وضحاها لكنها تحتاج دائماً إلى رعاية وتدريب وتحمل مشقتها لأنها تتطلب بذلاً وجهداً ومجاهدة للنفس ومقدرة لأن يتحول الإنسان إلى الاهتمام بالغير والإحساس بهم دون الانكباب على الشأن الذاتي الخاص، وهو أمر يحتاج إلى مران طويل وتأكيد دائم على غرس تلك القيمة وبخاصة في هذه الأيام المباركة التي يسعد بها كل من مد يده بالخير والمساعدة إلى غيره.
إن قيمة العطاء الإنساني، الذي باتت الإمارات عاصمة له وحولته إلى عمل مؤسسي يخضع للتخطيط الدقيق، وأصبحت لها كيانات كبيرة تحمي ديمومته، لا شك أنه تحول إلى ثقافة شعب وجزء من هويته بين الشعوب والأمم، أقول إن ذلك المشهد البديع يؤكد أن البداية من هنا، فالأطفال والشباب الذين يتربون في تلك البوتقة الخيرة لا شك أنهم سوف يسيرون على ذات الطريق، يحملون نفس الفكر بيدهم مشاعل النور والخير لوطنهم والعالم من حولهم، ولأن الفضيلة كل لا يتجزأ ولأن العطاء لا يتوقف عند العطاء المادي فحسب فلا شك أن مدرسته ستمد أبناءها بفضائل الأخلاق جميعها وتمامها، فإن نفس تملكها العطاء فهي نفس مجبولة على البذل لوطنها والذود عن حياضه، وهي نفس لا ترضى الدنية في أمورها لكنها لا تقبل بغير الريادة والتميز.
إن صحائف الخير وتقارير الإنجاز للأعمال الإنسانية، التي تطلع علينا كل يوم، هي لا شك ملهمه لأبنائنا في الإبداع الخيري بما يهيئ شبابنا إلى ترتيب أولوياتهم، بحيث تكون مقاصدهم في تعاملاتهم وحركاتهم وسكناتهم كلها خيره مهما كانت دائرتها، لكي تظل شعلة العطاء وجذوته منيرة يسلمها كل جيل إلى الذي يليه، وليبقى شعارنا دائماً وسارعوا، كل عام وأنتم إلى الخير أقرب.