لا أقصد باقتطاف جزء من بيت المتنبي الشهير (عيد بأية حال عدت يا عيد، بما مضى أم بأمر فيه تجديد) أن أشكو من حال الأعياد الآن (كما كان يقصد المتنبي)، بل أقصد فقط أن أشير إلى الاختلاف الشديد بين ما نفعله في الأعياد الآن، وما كنا نفعله في صبانا وطفولتنا.
لم يكن التليفون يلعب الدور الكبير الذي يلعبه الآن. ومن ثم فالمعايدة كانت تعني تبادل الزيارات، وكثيراً ما كان الزوار يأتون وفي أيديهم هدايا، خاصة للأطفال، وكان لابد أن يقترن هذا أيضاً بإعطاء العيديات، من الكبير للصغير، وتتخذ العيدية صورة نقود معدنية كان يراعى فيها عادة أن تكون لامعة فيضيفها الطفل إلى حصالته، إلى أن يكتمل فيها مبلغ يسمح له بالذهاب إلى الملاهي، فيركب فيها ما يشاء من مقاعد تبدو كأنها تطير في الهواء... الخ.
كادت تختفي النقود المعدنية، بعد أن تبين أن قيمة ما فيها من معدن قد تزيد على قيمتها كنقود، وأعطي الأطفال والصبية نقوداً ورقية. كما لم تعد لمدن الملاهي ما كان لها من انتشار كما قبل إقبال الصبية على استئجار الدراجات والطواف بها في الشوارع، بعد أن امتلأت الشوارع بالسيارات فلم يعد راكبو الدراجات يشعرون باطمئنان كافٍ. أذكر أنا أن ركوب الدراجة ذات العجلتين كان أخطر من أن يسمح به أبي، فكنت أستأجر الدراجة ذات الثلاث عجلات، وأنا آسف بالطبع لما يدل عليه ذلك من صغر سني وقلة شأني.
لم يكن التلفزيون قد وجد بعد، ومن ثم كان احتفالنا بالعيد في الشوارع أكثر منه في داخل المنازل، فضلاً عن طريقة غريبة للاحتفال بالعيد هي شراء وإلقاء «البمب»، وهو كرات صغيرة من المفرقعات تفاجئ السائرين في الشوارع ونتضاحك عندما نرى انزعاجهم.
كان لابد أن يقترن العيد حينئذ (كما لا يزال حتى الآن) بتناول الحلويات من كل نوع، كان لمراسم صنع الكحك سحرها للأطفال أيضاً، بداية من إعداد العجين ونشره في الصاجات السوداء التي ترسل إلى الفرن العمومي، إلى حين تستقبل هذه الصاجات بالسرور والترحيب وهي عائدة من الفرن. كما يراعى إرسال عينات من الكحك إلى الأقارب والجيران مقابل ما يأتي منهم.
كان يعتبر من المهم أن نرتدي ملابس جديدة في العيد، فإذا بكل منا يضع الجديد منها على كرسي خاص به ليرتديه في صباح يوم العيد. كان منظر الأولاد والبنات في الشوارع في أيام العيد ملفتاً للنظر ومبهجاً، بتعدد ألوان الملابس بالمقارنة بما كانت عليه قبل العيد. ربما كانت الطبقة العليا أقل احتفالاً بذلك إذ كانت ترتدي ملابس متميزة في جميع الأوقات، ولكن الطبقتين الوسطى والدنيا لم يكن ليفوتها تجديد ملابسهما في العيد.
وما زلت أذكر أيضاً شعور والدي بما عليه من واجب أن يصطحبنا أنا وإخوتي المقاربين في السن، إلى محل الأحذية في ميدان العتبة ليشتري لنا أحذية جديدة. كان أبي يعتبر هذا عبئاً ثقيلاً، نظراً لكثرة مشاغله، وكان يعبر عن ضيقه إذا قال أحدنا إن الحذاء أوسع من اللازم أو أضيق مما ينبغي. كان حينئذ يقول إن الحذاء الواسع يمكن علاجه بوضع «فرشة» له، والحذاء الأضيق من اللازم سوف يتسع مع الاستعمال. كان الغرض هو إنهاء المهمة.
لم تكن بهجة العيد لتكتمل طبعاً إلا بوجود الأصدقاء. كان هؤلاء عادة من زملاء المدرسة. ويتم اختيارهم بالضرورة ممن ينتمي إلى الطبقة الاجتماعية نفسها، فلا تبدو ملابس أحدنا أفخر بكثير من ملابس الآخرين، ولا يكون في جيوبهم من النقود أكثر بكثير مما في جيوب أصدقائهم. عندما أتذكر هذا أتبين إلى أي مدى كان التميز الطبقي عاملاً من عوامل التفرقة بيننا نحن الصبية منذ تلك السن المبكرة، كما استمر معنا بعد ذلك.
من المدهش كيف كان كل منا ينجذب منذ مقتبل العمل، وكأنه انجذاب غريزي، إلى من ينتمون إلى الطبقة التي ينتمي إليها، وينفر بالطبع ممن ينتمي إلى طبقة أعلى بكثير أو أقل بكثير. وقد كانت طريقة الاحتفال بالعيد من بين ما يميز طبقة عن أخرى. ولكن كل هذا لا يمكن أن يبدأ حتى تسمع في الليلة السابقة على العيد أغنية أم كلثوم الشهيرة في أحد أفلامها، والتي تبدأ بعبارة «يا ليلة العيد آنستينا».