الأمر المثير والغريب معاً بالنسبة لنتائج مؤتمر باريس حول ليبيا، أن المؤتمر الصحافي الذي عقد في ختام جلسة اليوم الواحد، وجمع الرئيس الفرنسي ماكرون، والمبعوث الأممي غسان سلامة، ورئيس حكومة الوفاق الليبية فايز السراج، قد تضمن العديد من القنابل الموقوتة، التي قد تنسف كل بنود «وثيقة باريس» المنبثقة عن المؤتمر، فضلاً عن أن إجابات المسؤولين الثلاثة رداً على تساؤلات الصحافيين وأسئلتهم، قد حملت الكثير من الغموض، بقدر ما عكست حالة من الشكوك حول جدوى ما تم التوصل إليه، برغم الصورة الوردية التي حاول ماكرون والسراج، على وجه الخصوص، تصديرها من خلال المؤتمر!
المشهد التفاؤلي الذي هيمن على «الصورة التذكارية» لحضور المؤتمر، لم يفلح في إخفاء أو تبديد الشواغل التي سيطرت على المهتمين بالشأن الليبي، والمتابعين لتطوراته، والآملين في تسوية سياسية شاملة ودائمة، لإخراج الدولة الليبية من النفق المظلم الذي تتخبط بداخله منذ نحو ست سنوات وأكثر.
هذا المشهد، عاشه الفرقاء الليبيون والفصائل المتصارعة على الأراضي الليبية، ومعهم العالم أجمع، أكثر من مرة، وسط أجواء احتفالية مماثلة مفعمة بالتفاؤل والأمل في الخروج بتسوية حقيقية، إلا أنها جميعاً تحطمت على صخور الواقع السياسي والمجتمعي المرير، المتمثل أساساً في غياب التوافق السياسي، وغلبة الروح القبلية، وتفضيل المصالح الذاتية والشخصية على المصالح الوطنية العليا، فضلاً عن التدخلات الخارجية واسعة النطاق، لمناصرة أطراف بعينها تارة، ومساندة جماعات مسلحة متطرفة أو إرهابية تارة أخرى، دعماً لتيارات فكرية أو دينية محددة، ما يؤدي إلى إطالة أمد النزاع، وغياب التوافق وتوسع الجبهة الإرهابية!
وبرغم الكوكبة الكبيرة من المسؤولين الليبيين وممثلي دول الجوار، وأخرى معنية بالشأن الليبي لمؤتمر باريس، إلا أنه على ما يبدو، كان التحضير ضعيفاً، والإعداد ليس على مستوى الحدث، وبدا كما لو أنه لم يستفد من كل المرات التفاوضية السابقة والاتفاقات «المرجعية» الأخرى بدليل أن قوى ليبية عديدة ومؤثرة لم توقع وثيقة أو إعلان باريس المنبثق عن المؤتمر، ومرد ذلك، أن شخصيات قيادية تمثل تلك القوى أو القبائل أو المناطق والمدن، لا توافق على مقاربة مؤتمر باريس بطرح شروط مسبقة.
ولكن بدون أدنى شك، هناك من حيث المبدأ بعض الشواهد التي تبعث على الارتياح، وتمثل كذلك بارقة أمل في التوصل للتسوية المنشودة يوماً ما، وعلى رأس تلك الشواهد، استمرار الأطراف الليبية في التفاوض، ووجود قناعة لديها بحتمية التسوية السياسية لإنهاء الأزمة، بعيداً عن الصراعات العسكرية والتدخلات الخارجية، علاوة على ذلك، فإن ما تمخض عنه مؤتمر باريس من خطوط عامة وجدول زمني للتسوية، هو أمر جيد، ولا غبار عليه، فتحديد العاشر من ديسمبر المقبل، لإجراء انتخابات عامة رئاسية وتشريعية، ويوم السادس عشر من سبتمبر، للتوافق على القواعد الدستورية، هي أمور جيدة، تعكس رغبة في التسوية، وقدرة على العمل السياسي كذلك.
هذه المبادئ العامة، كان من الممكن أن تكتسب قدراً أكبر من الإسناد والدعم، لو أنها حظيت بالفعل بموافقة وتوقيع كل الأطراف، مع تحديد الآليات العملية الواضحة للتنفيذ، ولكنها جاءت فضفاضة، بلا دعم حقيقي، ولا ضمانات عملية لتنفيذها، أو خطط فورية بديلة لمواجهة صخور عدم التوافق السياسي، وعدم الإجماع على التنفيذ واستمرار الانقسام، وهي المشاكل التي تحطمت عليها محاولات التسوية السابقة.
ومن الواضح أن الرغبات الفئوية والنوايا الذاتية، لعبت دوراً في عدم اكتمال التوافق المنشود في مؤتمر باريس، وربما كانت هنا أجندات أو طموحات خاصة في تنفيذ أهداف محددة، عكستها، على سبيل المثال، تصريحات فايز السراج خلال المؤتمر الصحافي، متحدثاً عن ضرورة توحيد فصائل الجيش الليبي كافة، تحت قيادة سياسية واحدة، تأتمر بأمرها، مطالباً بإنهاء ما اعتبره حصاراً على مدينة درنة، وتقديم الدعم والمساعدات الإنسانية للمحاصرين، وأغلب الظن، أن المقصود أو الهدف من هذه التصريحات، هو تحجيم دور وسلطات المشير خليفة حفتر قائد الجيش الليبي، الذي يقود في الوقت الراهن معركة درنة للقضاء على الجماعات المتطرفة المنتشرة في ربوعها، ومن الطبيعي ألا تجد تصريحات السراج أو أي محاولات لتقليص صلاحيات المشير حفتر، ترحيباً أو استجابة في الشرق الليبي.
وليست تلك النقطة المحورية الوحيدة التي يمكن أن تنال من «وثيقة باريس» عند وضعها موضع التنفيذ العملي، ولكن هناك قضايا خلافية عديدة، بحاجة إلى جهود جبارة لتسويتها، مثل توحيد المؤسسات السياسية والاقتصادية الوطنية، وتجريد المليشيات والفصائل المسلحة من أسلحتها، وقبل كل ذلك، التوافق على الاعتراف المتبادل من جانب القوى السياسية والفرقاء بالتسوية، التي تشمل الجميع، ويلتزم بها الجميع، احتراماً للشرعية، وهي عناصر مهمة، في حاجة إلى جهود مضنية لإنجازها، وربما كان ذلك أمراً واجباً قبل مؤتمر باريس، حتى يخرج في موعده بالاتفاق المنشود، وربما كان المبعوث الأممي، غسان سلامة، موفقاً، عندما أكد أن المرحلة المقبلة، بحاجة إلى حلول خلاقة، وجهود ابتكارية، لإنجاز نتائج مؤتمر باريس.