في كتابه الشهير «الحضارة ومنغصاتها»، كتب سيغموند فرويد أن الإنسان يتوق بطبعه إلى المفارقات فلا يرتاح طويلاً لاستمرار وضعه على ما هو عليه، وأقتطف لتأييد رأيه عبارة للشاعر الألماني الشهير (غوته) يقول فيها إنه ليس هناك أثقل على نفس الإنسان من «تتابع أيام لا يحدث فيها إلا ما هو طيب»، (a succession of fair days). إذا كان الأمر كذلك حقاً فلا بد أن يكون «للحضارات منغصات»، إذ إن الحضارة تزيد من سيطرة الإنسان على الظروف المحيطة به، طبيعية أو اجتماعية، وهذا يزيد من احتمال تتابع الأيام الطيبة.

لابد أن فكرة من هذا النوع قد طافت بذهن المفكر الفرنسي جان جاك روسو في القرن الثامن عشر، عندما امتدح الإنسان البدائي أو غير المتحضر، ومن مختلف الثقافات الذين فضلوا الحياة البسيطة على الحياة الأكثر تمدناً وكان من أواخرهم الزعيم الهندي غاندي الذي شوهد مرة وهو يصعد سلم قصر باكنغهام في لندن، لمقابلة ملك إنجلترا، وهو يرتدي جلبابه الأبيض وصندله البسيط، فاستنكر أحد حراس القصر يرتدي قبعة حمراء كبيرة ورداء متعدد الألوان، أن يكون في نية غاندي الظهور في حضرة الملك بهذا الرداء، فأجابه غاندي بأن «جلالته لابد أنه يرتدي ما يكفي الاثنين معاً»، أي غاندي والملك.

ولكن مع ما أحرزته الدول الصناعية (المسماة عادة بالمتقدمة)، من زيادة في الدخل والاستهلاك، ظهر مفكرون آخرون، ليسوا متطرفين مثل غاندي، ولكنهم يرون أيضاً أن غرام الناس بالاستهلاك قد زاد على الحد، ولم يجلب لهم ما كانوا يتوقعونه من زيادة الرضا بالحياة. من هؤلاء الاقتصادي الأميركي تيبور سكتيوفسكي الذي أثبت أولاً أنه ليس أقل من كبار الاقتصاديين في التمكن من قواعد علم الاقتصاد ونظرياته، ثم نشر كتاباً ينتقد فيه المجتمع الاستهلاكي ويقول إنه لم يجلب للإنسان المعاصر ما كان يرجو، من قدر أكبر من السعادة أو الرضا.

لم يكن من المتوقع أن يحظى هذا النقد للمجتمع الاستهلاكي بقبول واسع في الدول الأفقر مما يسمى أحياناً بالعالم الثالث. فزيادة الاستهلاك في هذه الدول تحقق لشعوبها أغراضاً تتجاوز الفوائد المادية للسلع المستهلكة، إذ تتعلق أيضاً بمركز الفرد الاجتماعي وتقييمه لقدره وقدر أمته في المجتمع الدولي. مع ذلك حظي المجتمع الاستهلاكي الغربي بنقد شديد حتى في الدول الفقيرة، بعضه كان نتيجة إحساس صادق بأن الثراء وما يجلبه من زيادة استهلاك لا يكفي لجلب السعادة.

الحياة الحديثة التي جلبت قدراً كبيراً من الثراء لأصحابها تحفل بالدلائل على ما في هذا الموقف من صواب. إن انتشار استهلاك الخمر مثلاً في الدول الأكثر ثراء يؤيد هذه الفكرة، كما أن انتشار عادة الجلوس أمام التلفزيون قد يؤيدها أيضاً. من الواضح من كلا الأمرين أن حاجة الإنسان إلى العلاقات الاجتماعية الحميمة، سواء مع أفراد العائلة أو الجيران أو الإصدقاء، لا تقل أهمية، إن لم تزد على حاجته إلى إشباع الحاجات المالية.

لقد استمر الاقتصاديون لمدة طويلة للأسف يتكلمون عن ظاهرة الاستهلاك وكأنها ظاهرة مادية بحتة، وعقلانية تماماً، دون التطرق إلى أنها تحقق أهدافاً اجتماعية لا تقل أهمية عن جانبها المادي، وإلى ما يشوبها في أحيان كثيرة من لاعقلانية. لقد وصف بعض الكتاب أخيراً ظاهرة الاستهلاك بأنها إلى جانب إشباعها المباشر لحاجات مادية، تحقق وظيفة «الجسر» الذي يصل الإنسان بغيره من الناس، ووظيفة «السور» الذي يحميه من الناس أو يفصله عنهم. ويمكن فيما أظن أن يقال الشيء نفسه عن «الحضارة» إنها تصل الناس بعضهم ببعض، ولكنها تقوم أيضاً بوظيفة السور الذي يحمي بعضهم من بعض. لقد قال الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر مرة إن «الجحيم هو الآخرون»، ومع ذلك فهو لا يمكن أن ينكر أن الإنسان كثيراً ما يسعى بقدميه للاقتراب من هذا الجحيم. الحضارة تقوم فيما يبدو بالوظيفتين: تسمح للناس بأن يقتربوا بعضهم من بعض، ولكنها تسمح أيضاً بأن يبتعد بعضهم عن بعض. المشكلة أنه كثيراً ما يعجز الإنسان عن تحقيق ما يريده بالضبط من قرب أو بعد في الوقت الذي يريده ومن ثم تظهر ما يمكن أن نسميه بمنغصات الحضارة.

مفكر اقتصادي