ليس هذا محض تخوف أو توقع أو استشراف للمستقبل لكنه أصبح واقعاً نعيشه ونرى آثاره في أنفسنا وفي كثير ممن حولنا، في تعاملنا مع ذلك العالم الافتراضي والفضاء الفسيح الذي يشبه تلك النداهة في الأساطير، تلك التي تدعوك فتجد نفسك تسير في طريق لا إرادة لك فيه والأخطار تحفك من كل جانب، ولابد أن تملك من الشجاعة والحيل والذكاء القدر الذي تستطيع به الرجوع إلى مسارك الصحيح، لقد بات الأمر واقعاً، حيث أدرجت منظمة الصحة العالمية، هوس أو إدمان ألعاب الفيديو، ضمن قائمة الأمراض العقلية والنفسية لعام 2018 «اضطراب الألعاب» مرض عقلي يعاني منه مهاويس ألعاب الفيديو الإلكترونية.
وتشخص «المنظمة» هذا المرض بأنه نمط سلوك مستمر أو مكرر لألعاب الفيديو أو الألعاب الرقمية، سواء أكان عبر الإنترنت أم غير متصل بالشبكة، يتسم بأنه يسيطر بشكل كبير على حياة المدمنين، حيث تتضمن الأعراض عدم القدرة على التوقف عن اللعب وتفضيله على مهام الحياة اليومية، كما أنه السلوك الذي يقوم به الفرد، منذ الساعات الأولى لاستيقاظه، يبحث عن الترتيب له والقيام به رغم أن ذلك قد لا يسعده، لكن تزداد عملية الإرغام على الفعل دون مبرر واضح له.
لذلك وحسب ما ورد عبر «سكاي نيوز» فإن أحد المستشفيات في بريطانيا يستعد لافتتاح أول مركز نفسي لعلاج الإدمان على الإنترنت، بتمويل من خدمة الصحة الوطنية، والذي سيسعى لتوفير العلاج وإجراء الأبحاث وإعطاء النصائح للعائلات، باعتبار أن الضرر الذي تسببه هذه الاضطرابات كبير، فضلاً على أنه يجعل بؤرة اهتمام الفرد مسيطر عليها لون واحد وشكل واحد، وكأنه أسير لها لا يجيد الفكاك منها رغماً عنه.
وتعد «كيمبرلي يونج»، عالمة النفس الأميركية، هي أول من وضعت مصطلح «إدمان الإنترنت» وقامت بدراسته منذ عام 1994، وتعرف «إدمان الإنترنت» بأنه «استخدام شبكة الإنترنت لأكثر من 38 ساعة أسبوعياً» أي ما يزيد على الخمس ساعات يومياً.
وفي تقديري أن ذلك نتيجة عوامل عدة، منها التطور المتسارع في المضامين، والتي تجعل رحلة متابعتها من المهتمين بها لا محطة وصول لها أو نقطة للوقوف عندها فتأخذه، رحاها يدور معها دون توقف أو حتى استراحة لالتقاط الأنفاس فيقع في فخ إدمانها دون إرادة منه، وكذلك التطور الكبير في الأجهزة المتصلة بالشبكة العنكبوتية، والتي باتت تلازمنا في حلنا وترحالنا، بدءاً بأجهزة الهاتف وليس انتهاءً بالساعات الذكية وغيرها من الابتكارات التي تطلع علينا كل يوم مما صغر حجمه وزادت فاعليته والوظائف التي يؤديها، والفرد دائماً محاط بهذا السياج واقعاً في حبائل استخداماته التي لا تنتهي.
كذلك سعادتنا بأبنائنا وهم يبحرون بمهارة تفوق قدراتنا في هذا العالم، فنتيح لهم المجال ونشجعهم للدرجة التي يزيد بهم على الحد المسموح لهم للتحكم في أنفسهم وكذلك قدراتنا في إيقافهم، وتتحول ممارستهم إلى نوع من الطقس اليومي أو العادة الغالبة، وباستمرارها تتحول إلى عادة قهرية، يصيب الفرد توتر شديد وإحساس بالأرق والقلق حين لا تتوافر له لسبب أو لآخر.
إن مصطلح الإدمان يتم ربطه بالظواهر التي لها ضرر بدني واضح كالتدخين أو المخدرات، الأمر الذي جعل ربطه بالظواهر التكنولوجية في حاجة إلى جهد كبير لكي يتم الالتفات له واهتمام الأفراد والأسر به، وبخاصة أن ظواهره تحيط بنا ونلمسها، وبخاصة عند النشء والشباب.
ولا شك أن آفة الإدمان لا ترتبط فقط بالأشياء غير المباحة لكنها في المباحة كذلك، وبخاصة إن خرج التعامل معها بعيداً عن طور الاعتدال والرشد، فتناول الطعام لا شيء فيه ولكن الإفراط فيه يحيل صاحبة إلى المستشفى، وكذلك حب العمل والاهتمام به أمر صحي ومطلوب لكن إذا انقطع الفرد له وترك بقية مسؤولياته لن يكون منتجاً في عمله أو صالحاً لغيره.
إن للإدمان وجوهاً كثيرة وأشكالاً متعددة، منها ما نشعر به ونلاحظه بسرعة، ومنها ما يحتاج منا إلى وعي كبير لكي نشخصه ونحدد له السبيل إلى الوقاية، التي هي أفضل لا شك من البحث عن سبل العلاج.
إن الخروج من تلك الدائرة لا يتطلب سوى التوازن في التعامل مع كل المستحدثات مهما بدت لنا الحاجة إليها، حتى نستطيع أن نستفيد منها الاستفادة المثلى، وأن نكون في المربع القادر على الفعل والتحكم من موقع الفاعل المؤثر لا المفعول به، لكي يظل التعامل مع التكنولوجيا من أوجه الصحة وليس الإدمان.