لا أدعي أنني من المتابعين الدؤوبين لكرة القدم غير أنه من حين إلى آخر يمكن أن أتعرض لمباراة هنا أو منافسة هناك عندما أكون في مجلس أجبر فيه على مشاركة الجالسين وما يشاهدون، ولأن مباريات كأس العالم حدث موسمي كل أربع سنوات فلا بأس من مشاهدة بعض المباريات الإجبارية كما ذكرت، غير أني وخلال مشاهدة إحدى المباريات وجدتني أستمتع بالمشاهدة أكثر حين أغلق الصوت وأشاهد المباراة صورة فقط، وهو الأمر الذي دفعني للبحث في نفسي عن الأسباب التي ربما يقبلها أو لا يقبلها القائمون أو الجلساء والمهتمون بالتعليق الرياضي، لكنها لا تعدو أن تكون في الأخير خواطر.
في تقديري أن التعليق الرياضي علم يتطلب أن يكون المعلق ملماً بقواعد اللعبة، متابعاً لمستحدثاتها، عالماً بخلفياتها، كما أنه في الوقت ذاته موهبة وثقافة يستطيع من خلاله أن يمثل حلقة قوية تزيد من ربط المشاهد بالحدث، فضلاً عن زيادة استمتاعه به، باعتبار أن المعلق من عوامل الترويج للعبة وكسب مزيد من الجمهور لمتابعتها، الأمر الذي له أبعاد كبيرة تتعلق بحجم الإعلان وكذلك أجور المعلقين ذاتها.
ولما كان الأمر كذلك فقد استوقفني أداء بعض إن لم يكن الأغلب من المعلقين من ناحية الشكل والمضمون، الأمر الذي دفعني كما ذكرت لتجربة الاستماع دون صوت المعلق، فوجدتني أكثر استمتاعاً بالمباراة ومتابعاً لها.
بداية لا أدرى ما هذا الكم الكبير من الصراخ الذي لا يعني شيئاً، والذي لا يتطلبه واقع الحال في الصورة التي أتابعها، نعم هي مباراة رياضية تتطلب نوعاً من الإثارة لكن ذلك لابد أن يكون في الزمان والمكان المناسبين وليس طوال الوقت بسبب وبغير سبب، فالصراخ طوال الوقت تأثيره على المتابع كالهدوء طوال الوقت، كلاهما يجعل المتابع مفصولاً عن التعليق، لكن الانفعال مطلوب حين يكون الموقف يحتاج إلى ذلك، حتى تكون هناك مصداقية فنية لدى المتابع لأداء المعلق الرياضي.
ثانياً لم أجد معنى لأن يصف لي المعلق الصورة التي أراها بالفعل، وبخاصة أن الصورة تغني عن ألف كلمة، كما يقول المثل الصيني، لذا فإن التعليق لا يعني وصفاً للصورة لكنه يجب أن يمثل إضافة للصورة، ومعلومة جديدة تضاف إلى المشاهد وتزيد من ثقافته الكروية، وإلا فما معنى أن يقول المعلق «رمية تماس» وأنا بالفعل أراها «رمية تماس»، كمن عرف الماء بعد الجهد بالماء.
ثالثاً التعليق هو إحدى حلقات النشاط الرياضي المهمة، لكن لا يعني ذلك أن يكون طاغياً من الدقيقة الأولى حتى آخر ثانية من المباراة، ولكن من المهم أن يترك مساحات زمنية للمتابع للتنفيس والاستمتاع بقراءة الصورة وجمالها، والاستمتاع بالتعليق ذاته، حين يترك ثواني معدودة للمشاهد لتكوين رأي ذاتي على الأحداث، وبخاصة أن للأذن طاقة للاحتمال لمباراة مدتها ساعة ونصف، بينهما استوديو تحليلي، وقد تمتد إلى ساعتين.
وهو الأمر الذي يرهق المتابع حين يكون الحديث مباشراً من شخص واحد، وفي رأيي أن التعليق إذا أخذ شكل حوار بين اثنين من المعلقين على مجريات المباراة سوف يحد من تلك الرتابة ويكون أكثر هدوءاً وتنوعاً وإفادة للمشاهد.
أما من ناحية المضمون فهذا أمر يستوجب التوقف أمامه طويلاً، وبخاصة ثقافة المعلق ووعيه وقدراته على ضبط انفعالاته، وإلا تحول إلى مشجع، والأمران مختلفان، وبينهما شعرة ضبطها من أهم عوامل نجاح المعلق في تقديري، والسؤال هل من المهنية أن يقوم المعلق بفرض رأيه طوال المباراة على المشاهدين؟ والذي لا شك يكون له لون وفكر وتوجه نحو لاعبين وفرق، في بدايات التعليق الرياضي كنا نستمع إلى المعلق يقول «نقدم لكم الوصف التفصيلي للمباراة»، فهل من حق المعلق أن يتجاوز الوصف إلى الرأي؟ وفرض الرأي طوال المباراة على الرغم من أن هناك استوديو يسمى «الاستوديو التحليلي»، والتحليل اصطلاحاً يعتمد على المعلومة وليس الرأي.
من ناحية أخرى قال أحد الأصدقاء، الذين شاهدوا مباراة البرازيل والمكسيك، «بأن المعلق يقول على اللاعب»رونالدو«البرازيلي، إطراء له، أنه يتعامل مع المنافسين كأنهم حشرات لا وزن لهم»!!، فقلت ما علاقة ذلك بالتعليق الرياضي، ومن الذي أعطى المعلق الحق في أن يصف سلوك اللاعب بتلك الصفة القبيحة، وذكروا «بأن ذات المعلق قال إن كأس العالم من دون ألمانيا وعدد بعض الفرق هي ليست كأساً للعالم بل لبقية العالم»!!، أجبتهم هل هذا تعليق رياضي أم هو خطاب عنصري بغيض يصنع الكراهية والتعصب بين الشعوب، وفي مباراة أخرى يقول المعلق «إن خسارة مباراة رياضية إهانة»!!، قلت لهم ألم يشاهد اللاعبين ذاتهم يتصافحون بعد كل مباراة ويتبادلون القمصان، وكذلك مدرب كل فريق يعانق الآخر ويهنئه بالفوز، والجماهير تجلس بجوار بعضها البعض دون أدنى احتكاك حتى في أكثر اللحظات انفعالاً.
كان الأولى أن يكون التعليق على تلك الصورة المضيئة وليس بث روح التعصب والكراهية، من أجل ذلك كان القرار مشاهدة المباراة صورة بدون تعليق.