سيدي صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله، عندما يفكّر ينظّم أفكاره، وعندما يقرّر يدرس قبل كل قرار أخطاره.

عرفْتُه وعرفَتْه الأوســاط المحـــلية والإقليمية والدولية، سياسيّاً محنّكاً، ودبلوماسياً لبقاً، وشاعراً حذقاً. لا يتكلّف الفهم، ولا يتصنّع العلم، ولا يتجاهل الآخرين، ولا يهضم كل ذي حقٍّ حقه، بل يقف موقف لسان الميزان معتدلاً بين الكفّتين، كما قال الشاعر:

وكن مع الناس كالميزان معتدلاً

ولا تقولـــــنّ ذا عمّي وذا خالي

فالعمُّ من أنت مغمورٌ بنعمته

والخال من أنت من أضراره خالي

ـ إن سموّه اكتسب بُعد النظر وحصافة الرأي ورجاحة العقل من والده المغفور له الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، وأجداده الذين أوقفوا دبيّ على قدميها من لا شيء، والذين فتحوا أبوابها على العالم مرحّبين بكل أطياف العالم وأبناء شتى الشعوب باختلاف ألوانهم وألسنتهم وثقافاتهم، من غير أن يملكوا شيئاً في ذلك الوقت. ولا تزال دبي تؤمن بذلك النهج القويم لآل مكتوم الكرام، الذي يجمع ولا يفرّق، ويبني ولا يهدم، ويعالج المشكلة بالصلاح وليس بالسلاح، ويدّخر ممتلكات البلد ومنجزاته من غير ما إبادة أو إتلاف أو حرق أو ضياع.

سيدي صاحب السمــو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، إن عباراتك الموجزة التي تطلقها بين فينة وأخرى، ما هي إلا حكم بليغة نابعة من مشكاة رؤيتك وينابيع تجاربك، وحب ينطلق من بحبوحة فؤادك الذي لا ينبض إلا بالوفاء والإخلاص.

فأنت يا صاحب السمو، منذ أن وُلدت لا تعرف الكراهية ولا البغضاء، ولا أدلّ على ذلك من أنك تقاسم من يجلس بجانبك على المائدة، فتضع في صحنه نصف لقمتك قبل أن ترفع النصف الآخر إلى فيك.

وقسْ على المائدة كل مجالات الحياة، ولا أريد أن أكون صريحاً أكثر من هذا، وإلا فإن المجال يتسع إلى القــول بأنـــك ما تلبس شيئاً، ولا تستعمل شيئاً، ولا تأكل شيئاً، إلا وتبعث بمثله إلى من حولك من أتباعك ومحبيك.

ولأنك يا صاحب السمو تحب الخير وتحب إعمار البلد وإنمــاء الاقتصاد، أنشأت مؤسسات للإبداع والابتكار ولتشجيع جيل الشباب على ممارسة التجارة والتنافس الشريف على الكسب، وتبادل الأدوار مع العالم الذي يحب العمل في ظل الأمن والأمان والاستقرار.

بين الأساس والواقع

سيدي صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، أوافقك الرأي بأن رجل السياسة هو من يسهّل حياة الاقتصادي والأكاديمي ورجل الأعمال والإعلامي وغيرهم...

لكن ماذا أقول للعالم العربي الذي خلط الأوراق، وضل الطريق، وفوّت الفرص على نفسه بسبب الغوغـــائية، فصـــرنا اليوم نشكو من دول تقسمت بين مفسدة العمل والفكر ومضيعة الأوقات، وبين مهلــكة الموارد.

اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همِّنا ولا مبلغ علمنا ولا غاية رغبتنا، واجعلنا ممن إذا آتاهم الله المال والجاه لم ينسوا نصيبهم من الدنيا، وابتغوا بما كسبوا الدار الآخرة.

نعم... سيدي لدينا فائض من السياسيين في العالم العربي، ونملك فلسفة أفلاطونية، لكن لدينا نقص في الإداريين كما قلت سموّك، وأفلاطون نفسه غير موجود بيننــــــــا. وبالأمس قلت سموك في كتاب «رؤيتي»:

«أزمة العرب اليوم ليست أزمة مال أو رجال أو أخلاق أو أرض أو موارد، فكل هذا موجود والحمد لله ومعه السوق الاستهلاكية، وإنما أزمة قيادة وأزمة إدارة وأزمة أنانية مستحكمة».

نعم، وقلت سموّك بأنها الأزمة الطبيعية التي يفرزها إعلاء حب كراسي الحكم على حب الشعب، وتقديم مصلحة الفرد ومصيره على مصير الوطن ومصلحته.

هذا ما قلته يا سيدي في عام طبع كتابك الأول «رؤيتي»، وكم كتاباً أصدرت بعده وكم كتاباً ستصدر فيما بعد، إن شاء الله، لكن يحزنني جداً بأن موقف الأمة في ظل حال (الأنانية المستحكمة) لم يتغير.

أقول، لم يتغير لأنهم لا يؤمنون بالتغيير حتى لو كان لمصلحتهم، ألا ترى أنهم في كل الأحوال إذا أرادوا أن يعبّروا عن رضاهم عن الوضع القائم قالوا: الله لا يغيّر علينا، وهذه يعدّونها دعوة صالحة تعود عليهم بالخير.

في حين أننا لو تأمّلنا في هذه الدعوة لوجدنا أنها في غاية السذاجة وهي دعوة البلهاء العاجزين عن استخدام العقل والفكر، ودعوة الأنانيين الذين يرون أن الحياة كما خلقت منذ اليوم الأول، يجب أن تبقى كما هي، ويقرأون، يومياً، قول الله تعالى: «إن الله لا يغير ما بقومٍ حتى يغيروا ما بأنفسهم...». الآية 11 من سورة الرعد.

ضرورات التغيير والتجديد

أجل، التغيير سنة الله في الكون، لا الليل يستمر في ظلمته ولا النهار يستمر في ضيائه، فالقمر دائب والشمس تجري لمستقرٍّ لها، والعالم إنسهم وحيوانهم، يولدون أفواجاً ويموتون أفواجاً، بل حتى الجمادات والأشجار تتبدّل وتتغيّر، وهذا إن دلّ على شيء فإن السكون ليس علامة الصحة بل ظاهرة مرضية، فلماذا لا نسعى نحن إلى التغيير والتجديد لنواكب العصر بل نسبقه أحياناً؟ وما أجمل ما قلت يا سيدي في قصيدتك طاقة الإيجاب:

طبعْ هذا الكون ما يحب السكونْ

لا ولا ينظر لمن خلّى وراهْ

دومْ سيره جِدم من ماضي القرون

طاقة الإيجاب له مصدر حياه

والفلك دايرْ نشوفه بالعيون

ما يُبا تدليل في كل اتجاه

بالعمل نحيا وبالطاقة نكون

قادرين انغير اللّي ما نباه

إذاً كيف نقول ونردّد: «الله لا يغير علينا»؟.

أليس الأفضل والأجمل أن نقول: اللهمّ يا محوّل الحول والأحوال حوّل حالنا إلى أحسن حال.

سيدي إن أفكار الأمة لمّا انحرفت أنتجت مفسدة، وإن عقولها لما تعطّلت صارت تدور في فراغ فنسمع جعجعة ولا نرى طِحناً، وصارت الأوقات تهدر فيما لا يفيد من الأقوال والأفعال، وعندما دخلنا الدهاليز المظلمة وأنفاق المجهول صرنا نبدِّد أموالنا ومواردنا جزافاً وهي ملك الأجيال القادمة.

وكم من المؤسف جداً، أن نرى، كما قلت سموّك، دولاً تفرض جدارتها على العالم وهي لا تملك موارد طبيعية، ونرى بعض الدول الأخرى غارقة في الثروات، ولا تستطيع أن توفِّر الخدمات الأساسية لشعوبها، كالطرق والكهرباء.

ليتهم...

نعم. ليت عالمنا العربي آب إلى رشده، وغلّب مصلحة الوطن والشعب، وليت دولنا تناست الخلافات الشخصية بينها لمصلحة الوطن والشعب كما تفعل بعض الدول الأجنبية الأخرى، وليت القائمين على الكثير منها فرّقوا بين وظيفة الحاكم الذي يحلّ أزمات بلاده ومشاكل شعبه، وبين الحاكم الذي يخلق الأزمات ويولّد المشاكل ويبدّد ثروات بلاده في إشباع أنانيّته، ومن ثمّ لا يهمّه أن يحرق إنجازاته بيده.

الله الله !! ما أجمل تعبيراتك سيدي:

«وظيفة السياسي تسهيل حياة الشعوب.

وظيفة السياسي حل الأزمات.

وظيفة السياسي بناء المنجزات».

من حقك سيدي أن تملّ المؤتمرات العقيمة والخطب الفارغة، وتملّ وجوه أصحاب الدسائس والمكائد الخبيثة، فأنت رجل سِلم لا حرب، وأنت رجل إنماء واقتصاد لا رجل هدر للمال والطاقة والأرواح والوقت.

أنت أتعبت نفسك في البناء فلا تحب من يحمل معول الهدم والتخريب.

أنت يا سيدي نشرت الأمن والأمان والاستقرار فلا تحب من يفكر في زعزعة الأمن. أنت تخرّجت في مدرسة المغفور لهما الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، والشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، وتعلمت الحكمة منهما، فلا تحبّ من ينفخ في أبواق الطيش والجهل والغلواء.

سيدي صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد، أنت تملك إرادتك فتستعمل عقلك فتضيف كل يوم جديداً إلى إنجازاتك، وكثيرون غيرك مسيّرون عند غيرهم ويعيشون في منغلق الجهل من غير هدف، فيخسرون حتى آخر ورقة في أياديهم ولا يبالون.

أسأل الله أن يحفظك ويحفظ صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة، حفظه الله، وصاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، وأن يحفظ حكام الإمارات جميعاً، ودولة الإمارات في ظل قيادتنا الرشيدة، وأن يلهم القادة في العالم كله لما فيه الخير والصلاح.