تحدثت في مقالي السابق «لغة وتسويق» عن بعض الظواهر اللغوية التي قد تسيء إلى التسويق بلغة سليمة، واليوم أكمل ذلك الحديث بطرح قضايا أخرى ذات علاقة وتسيء هذه المرة للفرد ومجتمعه وبلده.

يكتشف المطلع في نسبة حضور اللغات على الإنترنت بضعف المحتوى العربي، وخصوصاً إذا قارناه بعدد الناطقين بها.

فمن المفترض أن يزيد عدد المحتوى اللغوي في الإنترنت بزيادة عدد الناطقين بها ونشاطهم في الكتابة الرقمية على الشبكة العنكبوتية، وهو كذلك مع معظم اللغات كما تشير الدراسات، إلا أن الوضع ليس كذلك في ما يتعلق باللغة العربية.

حالياً، تتسيد اللغة الإنجليزية الموقف بمحتوى يبلغ 52% من مجمل ما يكتب، تليها اللغة الألمانية ثم الروسية فالإسبانية واليابانية وتبدأ القائمة بالتدرج نزولاً إلى أن نصل إلى اللغة الفارسية بنسبة 1.9%، ثم التشيكية بنسبة محتوى تبلغ 1%، حتى نصل إلى اللغة الهولندية والفلمش (أو الفلمنكية وهي لغة أقلية صغيرة في بلجيكا وهولندا) بنسبة تبلغ 1.3%، بينما يبلغ المحتوى العربي في الإنترنت 0.6%.

والملفت للنظر أن ترتيب الدول ذات اللغات الحية جاء نوعاً ما نسبة وتناسباً مع عدد سكانها، فكلما زاد عدد الناطقين باللغة زاد المحتوى في الإنترنت لتلك اللغة، إلا اللغة العربية!

هل نتج هذا عن ضعف في اللغة العربية وعدم قدرتها على مواكبة العصر الرقمي؟ أم هل لا يستخدم العرب الإنترنت؟ بالتأكيد لا فالعرب نشطاء على الإنترنت وهناك لغات أخرى أقل عراقة وتعقيداً من اللغة العربية كالفلمش والهولندية والتشيكية والتركية، وتملك حضوراً أقوى بمحتواها في الإنترنت.

ومكانة اللغة العربية بين اللغات كبيرة، فمفردات اللغة العربية تبلغ 12,302,912 مفردة.

بينما تبلغ مفردات اللغة الإنجليزية 600,000 والفرنسية 150,000 والروسية 130,000. إضافة إلى الكثير من الحقائق اللغوية التي ليس هناك مجال لسردها. فاللغة العربية غنية وقادرة على نقل أي فكرة في أوعيتها اللغوية بل التفنن في ذلك!

فما المشكلة؟

قد تكون الأزمة الحضارية التي نعاني منها كعرب، والنظرة الخاطئة من بعضنا للغتنا وواقعنا أحد الأسباب. فهي نظرة لا تخلو من النظرة الدونية للذات التي تنأى بالشخص عن ثقافته وهويته العربية.

وقد أكون مخطئاً في هذا الاعتقاد ولكن كلما اطلعت لا أجد شعوباً ذات عراقة مثل العرب وتتحدث اللغات الأخرى ولا تتحدث لغتها، وتجيد اللغات الأخرى ولا تجيد لغتها وحينما تتحدث الشعوب الأخرى اللغات الأجنبية، يبدؤون بإجادة لغتهم الأم أولاً، ويستخدمون لغتهم الأم كمدخل للدخول على اللغات الأخرى وفك شيفراتها اللغوية، ومن ثم إجادتها إن أمكن.

أما العرب فيتباهون هم وأبناؤهم بقدرتهم على التحدث باللغات الأجنبية، ولا يتباهون بإجادتهم للغتهم الأم (هذا إن تحدثوا بها)، علماً بأن الخلفية العربية واللسان العربي المبين بما وضع فيهم الله من أسرار صوتية وحنجرة مرنة قادرة على النطق بمختلف اللغات، هما من مكّنا الإنسان العربي من إجادة باقي اللغات من نطق وفهم وغيره.

فبدلاً من احترام اللغة الأم وشكرها لأنها مكنتنا من إجادة اللغات الأخرى، نقوم بتجاهل لغتنا العربية لاعتقادنا بعدم أهميتها في واقعنا العملي. وبدلاً من الدفاع عنها والغيرة عليها بالإصرار على الكتابة بها وإبرازها حيثما أمكن كما تفعل الشعوب الأخرى بلغاتها، نترك لغتنا لمن له اهتمام خاص بها.

اللغة هي الوعاء والوسيلة لنقل الأفكار لدى الشعوب وهذا الوعاء هو الذي يمكن الأفراد من التعبير عن فهمهم للكون وكل ما حولهم بلسانهم وبمفرداتهم وبطريقة تعكس حضارتهم وثقافتهم.

ولم تتطور الدول إلا بعد الاهتمام والتركيز بلغتهم واسألوا ألمانيا وإيطاليا غرباً والصين واليابان شرقاً ودولاً كثيرة بينهما. وبالتالي يأتي التفريط باللغة الأم سبباً من أسباب قلة الإبداع والهوان. وكيف لك أن تبدع بلغة ليست لغتك الأم؟ فلا بد من العودة لها ومحاولة إجادتها والتمكن منها واستخدامها لتحيا في أذهاننا وأذهان الغير ويكون لها حضور يتناسب مع مكانتها العددية.

ليبدأ المرء بنفسه ويتخلص من طلسمة اللغة العربية بإدخال الكلمات الأجنبية في جملها، وليبدأ باختيارها كلغة لجهازه الهاتفي وسيارته ومراسلات مصرفه وكل شؤون حياته. وليبدأ باستخدامها للحديث مع أبنائه وحاشيته لتبرز اللغة العربية على الساحة أكثر. ولتبدأ المؤسسات بخطوات جريئة نحو ذلك.

وختاماً أقترح إنشاء مركز أو مجمع للغة العربية، على غرار مجمعات اللغة العربية في كبرى العواصم العربية، يكون مرجعية للغة الضاد في بلدنا وملاذاً للسائلين والراغبين في إجادتها ومصدراً لتعلمها، فهي لسانك. و«لسانك حصانك، إن صنته صانك وإن هنته هانك».