منذ ثمانين عاما نشر الدكتور طه حسين كتابا مهما تحت عنوان «مستقبل الثقافة في مصر»، أحدث دويا واسعا وظل فترة طويلة يشغل الناس، واعتبره مؤرخو الثقافة المصرية والعربية علامة مهمة في تاريخنا الثقافي، يتكرر ذكره واقتطافه في المرة بعد المرة.
وخاصة دعوته إلى الأخذ من الحضارة الغربية بعبارات مدهشة في حسمها وعموميتها، إذ دعا إلى أن «نسير سيرة الأوروبيين ونسلك طريقهم»، وإلى أن نقبل من هذه الحضارة «خيرها وشرها، وحلوها ومرها، وما يحب منها وما يكره، وما يحمد منها وما يعاب».
قامت ثورة 23 يوليو 1952 بعد ظهور كتاب طه حسين بأربعة عشر عاما فعزلت الملك وأعلنت الجمهورية، واتخذت إجراءات ثورية لتغيير النظام الاجتماعي، كما رفعت من تطلعات المثقفين المصريين، وأثارت آمالا واسعة في إحراز تقدم في مختلف المجالات: السياسية والاجتماعية والثقافية.
كان اللحاق بالأمم المتقدمة أحد الأهداف التي تبنتها ثورة 1952، في مختلف المجالات ومن ثم لم يكن غريبا أن يتخذ رجل مثل طه حسين وزملائه المتحمسين للحضارة الغربية، موقف التأييد والرضا من الثورة، على الأقل في سنواتها الأولى.
فعلى الرغم من كل الشعارات التي رفعتها الثورة في العشرين سنة الأولى من حياتها، وحتى وفاة طه حسين في 1973، من معاداة الاستعمار في كل صوره، لم يصدر من قادة الثورة أي شيء يدل على معاداتها للحضارة الغربية أو رفضهم لمنجزاتها.
خطر لي منذ مرت هذه الفترة الطويلة على ظهور كتاب طه حسين أن أتساءل عما حدث لدعوة طه حسين إلى التغريب الشامل، فإذا أجد أن ما حدث فاق أي شيء كان يتصوره ويدعو إليه. لقد أتم طه حسين كتابه قبل نشوب الحرب العالمية الثانية، أي قبل قدوم ما يمكن أن يسمى بـ«العصر الأميركي»، بكل ما أحدثه هذا العصر من تغيرات ثقافية في العالم كله.
كان طه حسين يكتب في ظل سيادة الثقافة الأوروبية: الاستعمار الأوروبي كان لا يزال سائدا ولم يحل محله بعد الاستعمار الأميركي بسماته الجديدة والغريبة، والحضارة الغربية كانت لا تزال تحمل سمات الثقافة الأوروبية لا الأميركية. فما الذى كان يمكن أن تتوقعه من مثقف مصري كبير، شديد التعلق بالحضارة الأوروبية، ويعتقد أن أفضل ما يمكن أن يحدث للثقافة في مصر هو أن تحذو خطوات أوروبا بالضبط، وتقتدي بكل ما تفعل.
لقد لعب قدوم العصر الأميركي بالثقافة المصرية مثلما لعب بثقافات العالم الثالث الأخرى، كما تلعب العاصفة في البحر بالقوارب الصغيرة. جاء العصر الأميركي بالانقلابات العسكرية (التي تحول بعضها إلى ثورات أو سميت كذلك)، ولكن سواء كان ما حدث انقلابا أو ثورة، فقد فرض قيودا شديدة على الحريات التي كانت متاحة قبله.
أخذ الإنتاج الثقافي في مصر بعد ثورة 1952 يعبر عن مصالح طبقات جديدة كانت محرومة من التعبير عن نفسها، عشرات السنين (بل قرونا عديدة)، وأطلق عقال كثير من المواهب التي كانت تتوق إلى التعبير عن هذه الطبقات، ولكن هذا لم يكن بلا ثمن، وإن كان ثمنا لا بد توقعه في ظل نظام اجتماعي جديد، ونظام سياسي لا يعتبر نفسه ملزما باتباع الطقوس الديمقراطية المعهودة.
كان من بين ما دفع ثمنا عاليا لهذا التغيير الاجتماعي اللغة العربية، كيف كان لنا أن نتصور تطبيقا شاملا لمجانية التعليم، والتوسع المفاجئ في التعليم، في سائر المدن والقرى، ما يتطلب اكتظاظ عشرات التلاميذ في الحجرة الواحدة، والاستعانة بمدرسين لم يحظوا هم أنفسهم بالدرجة اللازمة من التعليم أوالثقافة، دون أن يحدث تساهل شديد في تطبيق قواعد اللغة، خاصة وأن الأحوال السائدة في خارج المدرسة كانت تساعد على هذا التساهل؟
كان المسؤولون السياسيون الجدد، هم أنفسهم، ذوو ثقافة محدودة، ويعلقون أهمية على النتائج العملية أكثر مما يعلقون على اللغة المستخدمة، وساد في ذلك الوقت ما سمى «بأفضلية أهل الثقة على أهل الخبرة».
استمر كل هذا ما يقرب من عشرين عاما، أي طوال العقدين التاليين لثورة 1952، توفى في نهايتهما طه حسين دون أن نقرأ له تقييما صريحا لما حدث خلالها للثقافة المصرية. ولكني لا أظن أن طه حسين (لو قد امتد به العمر) يتصور ما حدث بالفعل للثقافة المصرية في أعقاب ثورة وطنية علقنا جميعا عليها آمالا كبارا.