في وجدان الشعب المصري، تعتبر ذكرى الأربعين مناسبة مؤلمة تجدد الأحزان في نفوس البشر لمرور أربعين يوما على رحيل عزيز لديهم، ويعد إحياء ذكرى الأربعين طقسا مصريا خالصا من الثقافة المتوارثة التي يردها البعض إلى عصور الفراعنة أو قدماء المصريين..
ولعل ذلك هو السبب في إحياء «ذكرى» الأربعين لعديد من المناسبات، ليست التأبينية فقط، ولكن السياسية أيضا بتجدد الحديث والتأمل وربما اجترارا للآلام أو استدعاءً للعبر والدروس المستخلصة من تلك المناسبة، ولا شك في أن مرور أربعين عاما هذه الأيام على توقيع اتفاقات «كامب دايفيد» الشهيرة بين مصر وإسرائيل برعاية أميركية مباشرة يعد من المناسبات المهمة لإحياء ذكراها الأربعين!
وتستدعي ذاكرة من كانوا في نهايات العقد الثاني من العمر وباتوا الآن في نهايات العقد السادس مشاهد تليفزيونية مثيرة بين الرئيسين المصري الراحل أنور السادات والأميركي السابق جيمي كارتر ورئيس الوزراء الإسرائيلي الراحل مناحم بيغن في محاولاتهم الدؤوبة على مدى أسبوعين تقريبا لإزالة كل معوقات التوصل إلى الاتفاقات المنشودة، ولها بكل تأكيد أهميتها الكبرى لأنها الاتفاقات التي نجمت عن مبادرة السادات بزيارة إسرائيل في العام السابق عليها، وترتبت عليها معاهدة السلام الدائمة بين مصر وإسرائيل بضمانات أميركية في العام التالي، ومن ثم ليست مبالغة اعتبار الأعوام الثلاثة 1977 و1978 و1979 من أكثر الأعوام المفصلية تأثيراً في الصراع العربي- الإسرائيلي.
ولأن التفاصيل الكاملة لما جرى في كامب دايفيد وما حدث قبلها وما ترتب عليها، أصبحت أمورا معروفة بلا لبس ولا تشكيك، فالحديث المتجدد في هذه المناسبة «الأربعينية» قد يكون منطقيا حول ظروف الأعوام الثلاثة وما عايشته من تحولات دراماتيكية لتصل بنا إلى جملة من الأسئلة بداية من مناقشة حتمية المبادرة وضرورتها في ذلك التوقيت، وانتهاء بالبحث في مدى مسؤوليتها عما وصلت إليه أمتنا العربية من تشرذم وانهيارات أمنية وسياسية ربما غير مسبوقة، خاصة على صعيد العمل العربي المشترك تجاه القضية الفلسطينية، وكذلك العمل العربي المشترك على صعيد منظومة الأمن القومي العربي؟
أغلب الظن أن الإجابات الجمعية الحاسمة والقاطعة لن يكون لها محل في هذا المجال، فوجهات النظر في تقييم ما أقدم عليه السادات من زيارة القدس وما أعقبها من اتفاقات ومعاهدات تتفاوت بشكل ضخم من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب، ومن قمة الشمال إلى قاع الجنوب، كل يراها بحسب دوافعه ومواقفه السياسية وكذلك موقعه الجغرافي فهناك من رأى في تحركاته عملاً عبقرياً كسر كل «التابوهات» على غرار حلول «العصف الذهني، وهناك من اعتبرها عملاً منفرداً وخروجاً على وحدة الصف العربي وثوابته فيما يتعلق بالتعامل مع الكيان الصهيوني..
هناك من انتقد السادات بحدة وصولاً إلى حد اتهامه بالخيانة، وهناك من المسؤولين العرب من عدد أخطاء تصرفاته ومن بينها على سبيل المثال لجوؤه إلى قمة الهرم الدبلوماسي ممثلة في شخصه الرئاسي، بينما في مثل هذه التحولات الكبرى يكون العمل غالبا من خلال دوائر دبلوماسية وأمنية أو استخباراتية على مستويات أقل لتجنب الصدمات الكبرى عند الفشل في التوصل لاتفاقات شاملة، وهناك من تعامل مع تلك التصرفات بمنطق التحليل واستشراف المستقبل أن السلام مع إسرائيل من جانب واحد سيكون بمثابة إطلاق يدها في المنطقة لتصول وتجول فيها بعد إخراج مصر، وهي القوة العربية الأكبر، من الصراع.
وجهة النظر تلك تحققت بالفعل على أرض الواقع من خلال الاعتداءات الإسرائيلية المتعددة والمتكررة على العرب في الأراضي الفلسطينية المحتلة وفي العراق وسوريا ولبنان وتونس وحتى السودان بلا لاجم لها، ولكن قد لا تكون العلاقة حتمية بين التصعيد الصهيوني ومبادرة السادات واتفاقات كامب دافيد، فإسرائيل وكما هو معروف للقاصي والداني دولة قامت على العدوان ولا تعيش إلا به، فهي بحق جيش له دولة، ويعني ذلك أن ممارساتها العدوانية تجاه العرب كان مقررا لها أن تستمر في الغالب بنفس السيناريوهات حتى في غياب كامب دافيد، وربما يرى البعض في قرارات السادات عملا منفردا، وربما ساهمت في تصعيد الاعتداءات الصهيونية في غياب القوة العربية الأكبر، ولكن جلد الذات يجب ألا يدفعنا إلى تجاهل الجانب الآخر وهو الكيان الصهيوني..
فكثيرا ما سمعنا في إطار عملية جلد الذات تلك أن العرب هم أساتذة إضاعة الفرص والبكاء على اللبن المسكوب!! ولكن نظرة متأنية وتحليلا هادئا للأمور للممارسات العدوانية للطرف الآخر تقودنا بكل تأكيد إلى نتيجة لا تخطئها العين ألا وهي أن إسرائيل هي من يحرق أغصان الزيتون وهي من يدمر كل فرص السلام، لأنها لو تعاطت بالشكل السليم مع مبادرات السادات والعرب السلمية لكانت اليوم دولة طبيعية تعيش في محيط آمن بدلا من عزل نفسها مجددا داخل» جيتو قومي «بقانون»الهوية اليهودية" الأخير، الذي اعتبره البعض هزيمة للعرب والفلسطينيين ولكن حقائق التاريخ تؤكد أن الهزيمة ستكون لإسرائيل فالزمن يلعب لصالح أصحاب الحقوق المشروعة مهما قدموا من تضحيات أما من يرفضون كل مبادرات السلام فهم الخاسرون مهما طال الزمن.