كثيرة هي الجهود الدولية التي تبذل في سبيل محاربة الإرهاب على الصعيد العالمي، ولكن قليلة هي تلك الخطوات الجادة التي تتخذ لاجتثاث تلك الظاهرة الخطيرة من جذورها، بما يكفل حماية الملايين من البشر من تداعياتها السلبية والمدمرة في معظم الأحيان على الصعد السياسية والأمنية والاقتصادية، فضلاً عن تأثيراتها الأشد خطورة والمتمثلة في التدمير والتخريب وإراقة دماء الأبرياء وترويع الآمنين.

والمقصود بكلمة «الجادة» في هذا المقام هو الإشارة إلى أن الكثير من تلك الجهود ليست سوى إبراء ذمة أو مواكبة للنيات الحسنة فحسب في سياق حديث العالم عن محاربة الإرهاب بكافة أشكاله دون أن يصاحب ذلك أية خطوات عملية جريئة في إطار تلك الحرب المريرة، أضف إلى ذلك ظاهرة أخرى لها خطورتها على الساحة الدولية وهي ازدواجية المعايير في التعامل مع قضايا العالم وعلى رأسها قضية الإرهاب ذاتها إلى حد توفير مظلة فكرية وسياسية في بعض الأحيان لأعمال جماعات إرهابية بعينها.

هناك بالقطع دول وشعوب ومجتمعات تكتوي بنار الإرهاب وتدفع ثمناً باهظاً له بلا سبب أو مبرر، لأن الإرهاب مهما كانت دوافعه فلا يمكن قبول مبرراته، وفي الوقت ذاته هناك دول وليس مجرد مجموعات أو تنظيمات مارقة تلعب دوراً مؤسفاً في دعم الإرهاب باستغلال تلك الجماعات لتحقيق مآرب وأهداف خاصة، وذلك من خلال توفير ملاذات آمنة وخطوط الإمداد والتموين والدعم للإرهابيين، وتوفير منصات إعلامية لهم، فضلاً عن الدعم المالي الذي يبقيها على قيد الحياة ويساعدها على الاستمرار في تنفيذ مخططاتها.

لعل لتلك الحقائق أهميتها، ليس فقط عند الحديث عن ظاهرة الإرهاب وأسباب الفشل الدولي في محاربتها والقضاء عليها انطلاقاً من أرضية مشتركة ومعايير واحدة، ولكن الأهمية تظهر كذلك عند الحديث عن المعاهدات والاتفاقات الدولية والإقليمية الخاصة بجهود محاربة الإرهاب لتقييم مدى جدواها والفرص المتاحة لنجاحها في ضوء غياب الديمقراطية الدولية وتعدد المعايير.

ومن بينها الحدث المهم الذي نظمته كازاخستان على هامش أعمال الدورة الحالية للجمعية العامة للأمم المتحدة لإطلاق «مدونة السلوك نحو جعل العالم خالياً من الإرهاب»، وهي المدونة التي أُطلقت بناءً على مبادرة من رئيس كازاخستان طرحها خلال بيانه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 2015 بشأن ضرورة اعتماد مدونة سلوك عالمية للتوصل إلى عالم خال من الإرهاب..

وفي عالم السياسة تعتبر «مدونة السلوك» المرادف العملي لتعبير «إعلان المبادئ» الذي يرسم الخطوط العريضة للتعامل مع قضية معينة، وتأتي المدونة الجديدة موضوع الحديث في شكل إعلان سياسي طوعي، وتتضمن عدداً من المبادئ الطوعية الرائعة المرتبطة بجهود تجنب ومكافحة الإرهاب.

ومن بينها ضرورة احترام الدول لالتزاماتها الدولية والاتفاقيات والمعاهدات الدولية ذات الصلة خلال مكافحتها للإرهاب، وكذلك الامتناع عن دعم الإرهاب بأي شكل من الأشكال، وقيام الدول بضمان عدم استخدام أقاليمها لأغراض الإرهاب أو للتخطيط له أو لتمويله أو للقيام بأي شكل من أشكال الدعم للإرهاب.

علاوة على ضرورة العمل على تسليم المتهمين بالإرهاب أو محاكمتهم إعمالاً لمبدأ التسليم أو المحاكمة والتعهد بدعم كل من الجمعية العامة للأمم المتحدة ومجلس الأمن في جهودهم لتجنب ومكافحة الإرهاب، والعمل على التصدي لتهديد ظاهرة المقاتلين الإرهابيين الأجانب، ومنع تمويل الإرهاب أو حصول الإرهابيين على السلاح.

وضرورة التصدي لرسائل وايديولوجيات الإرهاب، وأهمية اعتماد استراتيجيات وطنية شاملة لمكافحة الإرهاب، وحتمية اتخاذ كل ما يلزم من تدابير لتجنب ومنع استخدام تكنولوجيا المعلومات والإتصالات بما في ذلك الإنترنت لأغراض الإرهاب، وأهمية التطبيق الكامل لاستراتيجية الأمم المتحدة العالمية لمكافحة الإرهاب، وسرعة التوصل إلى توافق حول مشروع الإتفاقية الشاملة للأمم المتحدة لمكافحة الإرهاب.

مجموعة الأفكار والمبادئ السابقة التي احتوتها مدونة السلوك الأممية الجديدة هي بالفعل أفكار في غاية الأهمية ومن شأنها تقديم «وصفة» متكاملة لأسس محاربة الإرهاب والحد من انتشاره وتمدده، إلا أن الأمور في الغالب لن تسير بالشكل المأمول، لأن لو التصدي لمشكلات العالم الخطيرة يكتب له النجاح بالمعاهدات أو الإتفاقات والمدونات والقرارات أو حتى التوصيات لكللت الكثير من الجهود الدولية بالنجاح ولتمكن العالم من وضع حد لكثير من الصراعات والأزمات والحروب..

إلا أن تلك الحقائق يجب ألا تكون سبباً في التقليل من أي جهد دولي يستهدف مكافحة الإرهاب أو وضع أسس دولية مشتركة لمجابهته ولو بمجموعة من المبادئ العامة أو إعلانات المبادئ أو مدونات السلوك، لأن مثل هذه الجهود تمثل في حد ذاتها شكلاً من أشكال الضغوط العالمية المستمرة لتذكير العالم بشكل دائم بمخاطر الإرهاب وحتمية التصدي لها في إطار جماعي.