المشهد في باريس أرادته فرنسا احتفالاً بالانتصار قبل مائة عام لقيم الحرية والاستقلال وحقوق الشعوب في تقرير مصيرها. كما قال المنتصرون في نهاية الحرب العالمية الأولى.
لكن الواقع فرض نفسه، فإذا بالمشهد يجسد أزمة العالم في لحظة صعبة من تاريخه، ويكاد يكون «بمن حضر وبمن غاب عن الاحتفال» صيحة تحذير من أن تكون مائة عام من محاولات بناء عالم أفضل تكاد تنتهي بالجميع إلى نقطة البدء وإلى مخاطر حروب لا تقارن بها مطلقاً حروب الماضي البعيد أو القريب!!
كان المفترض أن تكون الاحتفالية تأكيداً على أن العالم قد استوعب الدرس، وأنه لن يسمح بتكرار المأساة. لكن ما شهده العالم كان شيئاً آخر!!
أوروبا التي أشعلت الحرب المدمرة قبل مائة عام، ثم عادت بعد عشرين عاماً فقط فأشعلت الحرب العالمية الثانية التي فاقت في دمارها وضحاياها كل الحروب الماضية. بدت بعد مائة عام تعيش في أزمة طاحنة، اليمين المتطرف يزحف مهدداً كل ما تم بناؤه، في سنوات ما بعد الحربين، الاتحاد الأوروبي مهدد بالتفكك بعد خروج بريطانيا وانتشار دعوات الانعزال داخل دول أوروبا، حلف «الناتو» الذي كان أساس أمن أوروبا والغرب يدخل في أزمة طاحنة بعد الخلاف مع أميركا وتهديدات ترامب وصراعه العلني مع الرئيس الفرنسي ماكرون والمستشارة الألمانية ميركل.
ترامب لم يذهب إلى باريس من أجل الاحتفال، بل من أجل وضع حد لما يعتبره «تمرداً» أوروبياً تقوده فرنسا وألمانيا اللتان ترفضان شرطه لتعديل الاتفاقيات التجارية، وتشككان في سياساته، وتشجيعه الدول الأوروبية على السير في طريق بريطانيا والخروج من الاتحاد الأوروبي.
لينتهي الأمر بأزمة لن ينهيها هذا السجال العلني بين ترامب وماكرون لأنها أعمق بكثير، أوروبا الخائفة من التطورات الداخلية داخل دولها ومن التهديدات الخارجية حولها، والتي كان تحالفها مع واشنطن هو صمام الأمن والأمان لها، تفقد الآن الثقة.
قرار ترامب حول الانسحاب من اتفاقية الأسلحة النووية كان ضربة قاصمة للتحالف، فلم يسبقه أي تشاور بين واشنطن والحلفاء الأوروبيين الأقرب لها والأكثر تأثراً بالقرار. الرد كان إعلان الرئيس الفرنسي عن ضرورة قيام قوة أوروبية عسكرية مستقلة لحماية أمن أوروبا من روسيا والصين وحتى الولايات المتحدة!!
أزمة «حتى الولايات المتحدة» لن تنتهي سريعاً، القضية ليست «خناقة» بين الرؤساء، إنها أزمة ثقة ستستمر طالما بقيت السياسات الراهنة، أزمة قد تسعد الرئيس الروسي بوتين الذي حضر الاحتفالية، ويعرف جيداً أن كل شرخ في التحالف الغربي قد يساعده على إنهاء العقوبات التي تم فرضها على روسيا ويفتح أمامه أبواباً للتعامل مع أطراف التحالف دون هذا التحالف (!!)، لكنه في الوقت نفسه لا بد أن يخشى من تفكك منظومة الأمن الغربي التي ضبطت الأوضاع في أوروبا، ولا بد أن يتحسب كثيراً لوصول تيارات يمينية مغامرة للحكم هنا وهناك بالقرب من حدوده!!
وربما يكون مفيداً لنا أن نتذكر أن القول بأن مسرح الصراع العالمي يتجه إلى آسيا، بعد أن أصبحت الصين هي المنافس الأساسي لأميركا.. هذا القول لا يعني أن الصراع قد ترك منطقتنا، بل ربما يكون العكس هو الصحيح.
ولنا الآن في أوروبا مثلاً ينبغي أن نأخذه في الاعتبار، فلم يكن الرئيس الفرنسي يعبث وهو يتحدث عن قوة أوروبية موحدة ومستقلة، أو وهو يتحدث عن حماية أوروبا من مخاطر «الصين وروسيا. وحتى الولايات المتحدة»!! كان ماكرون يعرف بالتأكيد ما سيجره عليه هذا الحديث، لكنه كان يعبر عن خط سياسي متفق عليه. بدليل مسارعة المستشارة ميركل لتكرار الحديث نفسه حتى بعد هجوم ترامب الصاعق عليه!!
بعد أيام من احتفالية باريس.. كنا أمام مشاهد عربية عدة تقول إن هناك «في عالمنا العربي وفي المنطقة» من يرى المشهد جيداً ويحاول التعامل بجدية للحفاظ على الحقوق العربية وضمان الأمن العربي. وأن هناك من يصر على أن يكون عنصراً في ضرب الأمان والاستقرار في المنطقة، وأن هناك من لم يكن لديه طريق للعودة إلى الصواب بعد أن أغرق نفسه في مستنقع الخيانة أو العمالة والتحالف مع الأعداء.
في فلسطين المحتلة.. كانت حقائب الأموال القطرية يحرسها جنود جيش الاحتلال الإسرائيلي، وهي في طريقها إلى غزة وفي الوقت نفسه كان جنود الاحتلال يتسللون في عملية عسكرية فاشلة أعقبها عدوان كان يراد له أن يمتد لحرب تضرب كل الجهود المصرية لحماية أبناء غزة ولإتمام المصالحة الوطنية.
وفي إيطاليا.. كان مؤتمر «باليرمو» حول ليبيا. ورغم كل التحفظات وبعيداً عن مأساة أن يكون مصير ليبيا رهناً بميليشيات مأجورة ودول تتنازع على ثروات ليبيا البترولية وليس لحماية شعبها وإنقاذ دولتها.. أو ما تبقها منها!! بعيداً عن كل هذه التحفظات لم يكن حضور الرئيس المصري «السيسي» والرئيس التونسي السبسي انتظاراً لقرارات حاسمة من المؤتمر، بل كان تأكيداً على أن قضية ليبيا هي قضية أمن قومي عربي، وأن التعامل معها لا ينبغي أن يتم على أساس أنها صراع على ثرواتها أو منع للهجرة الأفريقية عبرها إلى أوروبا.. وإنما هي قضية شعب ودولة، وقضية أمن لن يتحقق إلا بحل سياسي وبرؤية عربية.
وربما ليس بعيداً عن ذلك كله، أن يصدر القرار بإتاحة الفرصة الأكبر لإنهاء الحرب في اليمن الشقيق بالحل السياسي الذي لا بديل عنه، ويضمن إيقاف إيران لكل محاولاتها مد النفوذ إلى مشارف الخليج العربي عبر السيطرة على اليمن وتسليم مقدراته للميليشيات الحوثية.