هذه محاولة للبحث عن قطة سوداء في غرفة مظلمة. القطة السوداء هي ما بات معروفاً بصفقة القرن، أو الصفقة «المثالية»، التي تزمع الولايات المتحدة إطلاقها لتحقيق السلام في الشرق الأوسط بين العرب والإسرائيليين. أما الغرفة المظلمة فهي تفاعلات وعلاقات وشبكات ونظم منطقة الشرق الأوسط بعد فوضى ما يسمى بـ«الربيع العربي» وسلسلة الحروب الأهلية ومحاولات الإصلاح الاقتصادية والاجتماعية في أكثر من دولة عربية.

القطة جاءت في شكل إشارات وعناوين أطلقتها واشنطن ومعها جاءت بعثات للبحث عن السلام في المنطقة، وإذا كان الرئيس الأميركي قد وضع أساساً للسلام في شبه الجزيرة الكورية بعد لقائه مع الرئيس «أون» في جزيرة «سنتوزا» في سنغافورة؛ ووضع أسس السلام العالمي في لقاء مع فلاديمير بوتين في هلسنكي يوم ١٦ يوليو الماضي، فإن طرح مشروع للسلام في الشرق الأوسط يكمل دائرة السلام في الدنيا كلها.

وفي غرفة الشرق الأوسط المظلمة فإنه لا يوجد إلا نوعين من رد الفعل العربي، أولهما فيه كم هائل من الارتعاد يصاحب دوماً كل التحركات الدبلوماسية نحو السلام في المنطقة على أساس أن مشروعات السلام ما هي إلا محاولة أخرى لتصفية القضية الفلسطينية. حدث ذلك منذ مبادرة روجرز عام ١٩٦٩ والتي عندما قبلها عبد الناصر كان الاتهام له بتصفية القضية الفلسطينية. وجرى ذلك مع كل محاولات السلام بدءاً من تلك المصرية وحتى الفلسطينية والأردنية خلال العقود التالية.

وثانيهما استدعاء اقتراح مركز بحوث إسرائيلي في الثمانينيات من القرن الماضي بمد قطاع غزة داخل سيناء حتى حدود العريش على أن تقدم إسرائيل ما يقابله في صحراء النقب لكي يكون شكل القطة التي يبحث عنها الجميع. كل القوى الراديكالية العربية على اليمين واليسار تفضل الأوضاع الراهنة من انقسام فلسطيني بين الضفة والقطاع، وزواج شعبي فلسطيني إسرائيلي في العمل والعملة والتجارة والأمن والصحة، وحروب دورية في غزة تنتهي دوماً بتدخل الأمم المتحدة والدول الكبرى وعقد مؤتمر لإعمار غزة مرة أخرى.

الإخوان المسلمون المنافقون في محطاتهم التلفزيونية، ومواقعهم الإلكترونية، وصفحاتهم الفيسبوكية، يعصرون أعصابهم، وينزفون دموعهم على ضياع أجزاء من سيناء لم تقبل مصر الحديث عنها قبل ثلاثة عقود.

القطة إذاً ليس لها علاقة بالحكاية الزائفة للوطن البديل، ما يمكن رصده هو أن الإطار الكلي للصراعات في الشرق الأوسط قد تغير؛ وفي الجوهر أن الصراع العربي الإسرائيلي لم يعد وحده الذي يشغل المنطقة، تغيرت خريطة الصراعات والأحقاد التاريخية باختصار، وتغيرت أحجامها، وباتت الأولويات كما التحالفات مختلفة. والاختيار الفلسطيني هو ما بين استمرار الصراع أو يكونوا جزءاً من العصر الصناعي القادم، و«وادي سليكون الشرق الأوسط».

«الصفقة» التي تريد أميركا عرضها على الفلسطينيين تقوم على تغيير الواقع الاقتصادي والمعيشي والأمني، حيث تزيد فرص العمل والاستثمار. بعث مشروعات قديمة مثل المطار والميناء في غزة، وفتح الباب لاستثمارات ضخمة في الضفة الغربية، أما عن غزة فما ورد عنها من تسريبات بالإضافة إلى مشروعات البنية الأساسية فإن محطات للطاقة وتحلية المياه سوف تكون في مصر وهي التي تمد القطاع بالكهرباء والماء.

ليس معنى ذلك أن حل الدولتين سوف ينتهي وإنما حالة الحرب والعداء هي التي سوف تصل إلى نهاية، وسوف يكون الطريق إليها هو إقامة دولة فلسطينية وفق الحدود الحالية في الضفة والقطاع، وما غير ذلك سوف يكون موضوعاً لتفاوض طويل الأجل بين الدولتين، أما في القدس فإن السيطرة في الأماكن الإسلامية المقدسة سوف تكون موزعة بين الأردن والفلسطينيين، كل ذلك هو ما يخص الفلسطينيين في القصة، ولكن المسألة لها أبعاد أكثر من ذلك لأنها سوف تخص الإقليم كله الذي عليه أن ينظر للحالة الإسرائيلية في إطار من الأمن الإقليمي الذي يحقق الاستقرار ويواجه الإرهاب والتطرف والتوسعات الإيرانية والقوى المحلية الموالية لها. السؤال الآن هو هل مثل هذه الصفقة يمكن القبول بها، أم أنها مرفوضة في الشكل والجوهر ومن ثم استمرار الأمر الواقع على ما هو عليه؟ كلها أسئلة تحتاج إجابات تأتي من التفكير الرشيد والهادئ ؟!

* كاتب ومحلل سياسي