ذكر لي أحد الأصدقاء عن دكتور على قدر من الخبرة والكفاءة وهو يقص عليهم قصة تجربة تجديد الإقامة ويتحدث عن سوء الإحساس الذي يحس به عند تجديد إقامته وتقييم سلامة قواه العقلية من قبل موظف صغير في السن وقليل الخبرة كما يبدو، ولا يكاد يكون إلا كأحد أحفاده، ويعد هذه الأمر (أي تقييم سلامة العقل) أحد متطلبات تجديد الإقامة لمن هم فوق الستين في السن.
وأنا لا انتقد هذه الخطوة، فالجهات المعنية موكلة بفعل ما تراه ضرورياً لخدمة الوطن الغالي، ولكنني ومن زاوية أخرى أطرح الموضوع بشكل آخر قد يكون أكثر ملاءمة ومراعاة لجميع الأطراف.
وصادف أيضاً قبلها وفي مجال عمل آخر أن اشتكى لي موظف قدير في أحد البنوك الرائدة عن إعادة هيكلة ليأتي من تتلمذ وتتدرب ونضج على يده ويقوم بتقييمه واختبار إمكانياته! فكان الاثنان محرجان من بعضهما البعض لمعرفة كل منهم بالآخر وقدراته.
أقول مرة أخرى، ليس من حق أي أحد التدخل في الشؤون الإدارية لأية مؤسسة وليس هذا موضوعنا اليوم، ولكن ما يعنينا هنا هو ظاهرة التغاضي تماماً عن دور الخبرات المتراكمة عبر السنين للموظف وما تعلمه واكتسبه الإنسان عبر الدهر، صحيح أن هناك بعض المجالات الحديثة التي تتطلب دماءً وأفكاراً جديدة وشباباً متجدداً باستمرار ويفور بالطاقة العملية.
إلا أن هناك مهناً تخصصية مثل الطب والطبابة بمختلف أنواعها، والصحافة والكتابة وبعض المجالات الأخرى كتطيير الطيارة والتعليم بمختلف أساليبه، هي مجالات لا يصل الممارس لها إلى مرحلة النضج فيها والعطاء القيّم إلا بعد سنين طويلة من ساعات العمل والممارسة العملية للمهنة، وكلما طالت مدة الخدمة، زادت قدرات وحنكة الممارس لها، والأمثلة على ذلك كثيرة.
إن وضع مصائر المتخصصين في مهن نبيلة كالطب مثلاً في أيدي أفراد صغار في السن ليقيّموا القوى العقلية للدكاترة أو الإتيان بموظف حديث الخبرة لتقييم عمل وأداء من هو أعلم وأكبر وأخبر منه في القطاع البنكي، هو تساؤل لطالما حيرني وأنا أبحث عن إجابة مقنعة له، ولطالما تحايلت على نفسي محاولاً إقناعها بجدوى هذا التوجه ولكنني لم أستطع.
ومع ازدياد صدقي مع نفسي، تزداد قناعتي بأن الخبز لا يعطى إلا لخبازه.
«أعطِ الخباز خبزه» هو مثل لم يضرب اعتباطاً رغم اختلاف الأزمان، بل عن دراية وفهم تام لمدرسة الحياة، وهو يلخص تجارب بشر وحكمة لم يتم التوصل إليها بسهولة، ولذلك ليس من الحكمة تجاهل هذا المفهوم الراقي المتضمن في هذا المثل، والذي بدوره يوفر على البشر الكثير من العناء ويحفظ ماء وجه لمن هو جدير بذلك.
والسؤال الذي يطرح نفسه الآن هو كيف ستستطيع بعض المؤسسات والدوائر خلق موازنة عادلة بين مفاهيم السعادة وبين مثل هذه الممارسات التي يعشقها الكثيرون لأسباب مختلفة؟ وكيف سيوازن الراغب بالتوفير المادي وإعادة التدوير بين الخبرات القديرة المطلوبة في مجالات تخصصية محددة وبين حضور طاقات الشباب التي لابد من حضورها؟
لن يتم الوصول لإجابات مقنعة لهذه التساؤلات إلا عند إعادة النظر في مؤشرات الأداء وتغليب المصلحة العامة، ولن يتم الوصول لإجابة مقنعة ما دام التوفير المادي هو الهدف الوحيد والمعيار الأول، وفي نهاية المطاف، يبقى كل هذا النقاش مجرد رأي يناقش بعض الممارسات ولكن من زاوية أخرى.