«أنقذونا» صيحة الاستغاثة هذه، هي المعنى المرادف لارتداء السترات الصفراء، التي اكتسبت اسمها من قانون يلزم قائدي السيارات في حالة الطوارئ والحوادث بارتدائها، لكونها تضيء في الظلام، مما ييسر عمليات مد العون والمساعدة.

الرئيس الفرنسي ماكرون تراجع عن الإجراءات التي أقدمت عليها حكومته بزيادة الضرائب على رواتب الشرائح الصغرى من الطبقة المتوسطة ومحدودي الدخل وأصحاب المعاشات.

ولأن التراجع جاء متأخراً نحو أربعة أسابيع، فلم يعد قادراً على احتواء الاحتجاجات، لا سيما بعد الإعلان عن استمرارها السبت القادم حتى بعد خطاب ماكرون إلى الأمة وإعلانه عن حزمة إجراءات لزيادة الرواتب والمعاشات لتحسين القدرة الشرائية للمواطنين.

وأكد تصاعد سقف المطالبات بالدعوة لرحيل ماكرون من قصر الإليزيه، وحل البرلمان، وإعادة النظر في السياسات التعليمية، وغيرها من المطالب الاجتماعية، أن الحل الأمني لم يكن بوسعه إنهاء تلك التظاهرات، التي انتقلت من باريس إلى مدن فرنسية أخرى، وخرجت من فرنسا إلى بلجيكا وهولندا وبلغاريا وبعض المدن البريطانية.

يسوق بعض أصحاب نظرية المؤامرة -وأنا واحدة من بينهم- دور العامل الخارجي في تأجيج تلك التظاهرات عبر الفضاء الإلكتروني في وسائل الاتصالات الحديثة.

وفي هذا السياق فإن ماكرون تتم معاقبته على مطالبته ببناء جيش أوروبي موحد، وتحالفه مع المستشارة الألمانية ميركل للتخفف من ثقل الهيمنة الأميركية على دول الاتحاد الأوروبي، والسعي لإعادة بنائه بما يعظم مصالح دوله.

وكان الرئيس الأميركي ترامب قد تعمد توجيه إهانات للرئيس الفرنسي حين قال لولا الولايات المتحدة لكان ماكرون يتحدث الألمانية الآن، بدلاً من الفرنسية، في إشارة إلى انضمام الولايات المتحدة إلى التحالف الدولي في الحرب العالمية الثانية الذي أدى إلى هزيمة الغزو النازي لفرنسا والدول الأوروبية الأخرى.

كما دعا ترامب ماكرون في تغريدة شامتة بدت داعمة للسترات الصفراء، إلى رد أموال خطته للبيئة إلى الشعب الفرنسي، وهو المنسحب من اتفاقية المناخ، مما أدى إلى احتجاج الخارجية الفرنسية على تصريحاته، باعتبارها تدخلاً في الشؤون الداخلية!

لكن العوامل الخارجية تبقى محدودة التأثير، ما لم تجد لها تربة داخلية مواتية. وتشكلت هذه التربة من انضمام فئات من مختلف الطبقات الاجتماعية والأعمار والمهن والثقافات إلى التظاهرات، ما يعني أن قدرة تلك الفئات على تحمل نتائج السياسات الاقتصادية السائدة باتت منعدمة.

وساهمت عفوية تلك الاحتجاجات، وانقسامها، وافتقادها القيادة الموحدة، وابتعادها عن المؤسسات النقابية والحزبية التقليدية، حتى لو زعمت الأخيرة انتسابها إليها، ساهمت تلك العوامل في أن يستولي دعاة العنف والتخريب والفوضى، على المشهد الرئيسي للتظاهرات، التي تحولت من تحرك يطالب بدعم القدرة الشرائية للفرنسيين، وإلغاء الضريبة على السكن والوقود، وفرض ضريبة على الثروة، والفصل بين السلطات التنفيذية والتشريعية، والمحافظة على حقوق الحماية الاجتماعية التي يتم التراجع عنها، إلى السقوط العميق في هوة الشعبوية، وهو ما ساهم في رفع أعداد المعتقلين، لتزداد مطالبهم مطلباً جديداً، هو الإفراج الفوري عنهم.

الواضح أن التراجع عن الإجراءات التي حركت تظاهرات الشارع الفرنسي والأوروبي، لن تقدم حلاً جذرياً لأسباب تفجرها، حيث تبدو الآن أنها تحمل من العمق، أبعد كثيراً من مطالبها المعلنة، إنها -كما قال أحد المعلقين الفرنسيين- بمثابة رصاصة الرحمة على سياسات الليبرالية الجديدة، والتكيف الهيكلي، الذي صاغ مبادئها صندوق النقد الدولي، ودافع عنها ونفذها بإخلاص فاق كل حد، دونالد ريغان في الولايات المتحدة، ومارغريت تاتشر في بريطانيا قبل نحو أربعين عاماً.

وتقوم تلك السياسات على منح الحرية الكاملة في السوق لحركة رؤوس الأموال والبضائع والخدمات، وإعفائها من الضرائب، وتخفيض أسعار العملات المحلية، ورفع الرقابة على الأسعار، وتسعير خدمات مياه الشرب واستخدام الطرق، وخفض الأنفاق العام على الخدمات الاجتماعية مثل الصحة والتعليم والسكن، وتخفيض أجور العمال، وتقليص برامج الرعاية الاجتماعية للفقراء ومحدودي الدخل، وبيع الشركات العملاقة المملوكة للدولة وتسريح العمالة منها، وفتح الأبواب دون قيود للاستثمار والتجارة على الصعيد الدولي.

والقاعدة التي اعتمدتها تلك السياسات، هي أن السوق الحر دون تدخل حكومي، قادر على أن ينظم نفسه بنفسه، وعلى تصحيح أخطائه، وأنه سيعمل على زيادة النمو الاقتصادي، بما يجني ثماره جميع المواطنين.

والدرس الذي ينبغي التعلم منه، أن تلك القاعدة فشلت فشلاً ذريعاً في الدول النامية الصغيرة، حيث زاد الفقراء فقراً والأثرياء غنى، وارتفعت معدلات البطالة، وعمّ الغلاء، وها هي نفس القاعدة تسقط وتتحطم تحت أقدام السترات الصفراء الأوروبية.